صحيفة السوسنة الأردنية

جاء في تعميم نادر اصدره السيد رئيس الوزراء قبل نحو اسبوع ان "على جميع الوزارات والدوائر الرسمية والمؤسسات العامة ، وتحت طائلة المسؤولية القانونية ، اتخاذ اشد الاجراءات (تصور،) بحق الموظف الذي يقدم على تسريب اية وثيقة او تصريح لاي جهة خارجية ما لم يكن مخولا بذلك".

ولكي لايذهب القارىء الكريم بعيدا في تفسير مضمون الوثيقة او الجهة الخارجية المقصودة من التحذير فان التعميم نفسه اشار بوضوح الى ان الجهة الخارجية هي الصحافة ، والصحافة الاسبوعية تحديدا ، اما الموضوع فهو اية معلومات تتعلق بتجاوزات مالية او ادارية ، ولكي تكتمل الصورة تماما اضاف "ان بعض الصحفيين يرتبطون بعلاقات مع هؤلاء الموظفين ، ويدعمون احيانا معلوماتهم بوثائق رسمية اعتادت بعض الصحف على نشرها". انتهى الاقتباس.

بصراحة لم يكن يخطر في البال ان يصدر مثل هذا التعميم من السيد الذهبي ، فالرجل معروف بانفتاحه على الاعلام ، ومشهود له بالنظافة ، وهو بالتالي يحتاج لمن يساعده في الوصول الى معرفة "التجاوزات" التي تحدث ، ولا مصلحة له في اخفائها ، ولهذا كنا نتوقع ان يأتي التعميم بشكل آخر كأن يطالب الموظفين بعدم التستر على اية تجاوزات ، او يلزمهم بابلاغ رئاسة الوزراء او هيئة مكافحة الفساد عنها ، وبدلا من التحذير باشد العقوبات ، كان يفترض ان يتم تشجيعهم على ذلك ، وان تخصص جوائز ما لكل موظف يساهم في الكشف عن اية حالة تجاوز او فساد.

هذه واحدة ، اما الاخرى فهي ان التعميم تقصّد حرية الصحافة ، اذ كيف يمكن للصحفي ان يحصل على المعلومة من دون ان تكون له مصادره (وهي هنا الموظفون داخل الوزارات) وكيف يمكن ان ينشر هذه المعلومات دون ان يكون بحوزته ما يلزم من الوثائق والادلة ، وهذا يعني منع الصحافة من القيام بمهمتها الرقابية ، وحرمانها من الوصول الى المعلومة الصحيحة ، وتخويفها بالتالي من نشر ما يصلها من قضايا التجاوز المالي والاداري ، وهذه كلها مخالفات صريحة:

1 - للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادق عليه الأردن ويطالب الدول باحترام حق الوصول للمعلومات وتداولها ونشرها.

2 - للمعايير الدولية التي تعطي الحماية للموظفين الذين "يفشون" المعلومات من أية عقوبات قانونية أو إدارية.

3 - للمادة "15" من الدستور التي تصون حرية الصحافة ، وكذلك للمادة 7 من قانون المجلس الأعلى للإعلام التي تؤكد على حرية تداول المعلومات ، بالإضافة إلى أن المادتين "8,6" من قانون المطبوعات والنشر تؤكدان على حق الصحفي في الوصول للمعلومات ونشرها.

المرافعة القانونية هنا مفيدة ، لكن الاهم منها الانتباه الى مسألتين: الاولى ان بلدنا ، وبتوجيهات ملكية عليا ، وضع الحريات الاعلامية المسؤولة في المرتبة الاولى من اولوياته ، وهو يسعى الى تأصيلها وحماية ما انجز منها ، والبناء عليه ايضا ، ومن هنا فان التعميم الذي صدر يتجاوز هذه المنجزات ان لم نقل انه يشكل تراجعا عنها ، اما المسألة الاخرى فتتعلق بالتوقيت ، وهو هنا لافت ومحير ، فبينما نتصدى للرد على تقارير المؤسسات الدولية حول تراجع الحريات في بلادنا ، وبينما نطالب بفتح الانسدادات الاعلامية والسياسية لتجاوز ما نعانيه من انسدادات اقتصادية ، نفاجأ بحلول ومقررات اخرى تصب في عكس الاتجاه.

بقيت لدي كلمة اخيرة وهي ان الاعتراف بالخطأ ، والتراجع عنه فضيلة ، واظن ان هذا التعميم نوع من الخطأ غير المقصود ، وبالتالي فان المجال لتصحيحه او توضيحه او الغائه ما زال متاحا ، مع التقدير لمن يمتلك الشجاعة على فعل ذلك.