لماذا يدفع المستهلك ثمن كل القرارات الاقتصادية؟ .

mainThumb

25-02-2008 12:00 AM

في بداية هذا المقال حاولت إستخدام كلمة "المواطن" في العنوان ، ولكن بعد المضي قدما في الكتابة إكتشفت أن المواطن ليس كائنا متناسق الأوصاف ، فهذا المواطن قد يكون أحد أصحاب الملايين ممن يقودون السيارات الفارهة بعنجية كبيرة ويكنزون الأموال ويرشقون الآخرين بالمياه في يوم ماطر ، أو قد يكون ببساطة ذلك المواطن الآخر الذي يتلقى رشقة المياه وهو واقف منذ ساعات في انتظار وسائل مواصلات تعود به إلى بيته البعيد.

عندما نناقش القضايا الاقتصادية نحاول دائما الوقوف في صف المواطن ، ولكننا من الصعب أن نقدم "بورتريه" لهذا المواطن الأردني لأننا نكتشف في كل قضية نناقشها أن هناك مواطنين آخرين ، بل ومؤسسات تحميهم مثل النقابات والجمعيات وغيرها تدافع عن حقوق مختلفة تماما عن حقوق المواطن الذي ندافع عنه.

لنأخذ مثلا قضية ارتفاع أسعار الخضروات والفواكه في الأردن. هناك المواطن المزارع والذي يبذل الجهد الكبير في الزراعة والفلاحة والإنتاج وسط معاناة من الصقيع والجفاف وإرتفاع اسعار الوقود وضعف التزويد المائي وهو بالكاد يجد كفاف يومه. وهناك المواطن الوسيط الذي يشتري البضاعة بأسعار زهيدة وينقلها للسوق المركزي حيث يبيعها لتجار التجزئة.

وهناك المواطن تاجر التجزئة والذي يحاول المضاربة بالسعر وتحقيق أفضل هامش ممكن من الربح وهناك أخيرا المواطن المستهلك الذي يشتري كيلو البندورة والخيار لإطعام أولاده ليكتشف أن السعر يتزايد في كل مرة وأنه وحده كمواطن مستهلك يضطر لدفع كلفة الصقيع والجفاف وقرار وزارة المياه بتقنين المياه على المزارعين وإرتفاع اسعار المحروقات.

وفي حالة أخرى يطالب مواطنون في موقع المسؤولية التشريعية في مجلس النواب بدعم مواطنين آخرين من مربي الماشية ، وبعضهم مواطنين أثرياء وبعضهم فقراء من خلال فرض ضريبة بسيطة على المكالمات الهاتفية لتوفير المموارد المالية لدعم الأعلاف وبالتالي دعم الماشية.

ولكن مواطنين آخرين في شركات الاتصالات يرفضون هذا الطلب والذي يؤثر على "حرية السوق" ويقولون بأنه لو تم إتخاذ القرار في مجلس النواب ووافقت عليه الحكومة فإن المواطن المستهلك هو الذي سيدفع الثمن من خلال زيادة الأسعار.

في البنك المركزي مواطن يتخذ قرارا منطقيا بتخفيض سعر الفائدة على القروض البنكية ، ولكن مواطنين آخرين من مدراء البنوك يتجاهلون هذا القرار ويستمرون في فرض الفائدة العالية متذرعين بأن السوق يحتاج إلى وقت حتى تظهر نتيجة تخفيض الفائدة ، وبالتالي يستمر المواطن المقترض والذي يمثل ربما %80 من الشعب الأردني في دفع الثمن وحده ، ولو كان قرار البنك المركزي هو رفع الفائدة لتم هذا الرفع من قبل البنوك خلال نصف ساعة يتطلبها طباعة القرار وتدقيقه وتوقيعه بدون انتظار دراسة وتقييم أوضاع السوق.

هل تريدون مثالا آخر؟ تقرر الحكومة من خلال قرار لمواطن هو رئيس الوزراء الغاء ضريبة المبيعات والجمارك على طائفة من المواد الغذائية الأساسية ولكن مواطنين آخرين من التجار والمستوردين يتجاهلون هذا القرار ويستمر البيع بالأسعار المرتفعة حتى يدفع المواطن المستهلك في النهاية الثمن ، ولو كان قرار الحكومة هو زيادة الضريبة مثلا لارتفعت كل الأسعار في نصف ساعة أيضا يتطلبها تعديل قائمة الأسعار في المحل التجاري أو البقالة أو المطعم لنفس البضاعة المستوردة أو المنتجة سابقا.

في خلاصة الأمر ، يتسبب غياب الرقابة والمساءلة وفرض الأمر الواقع أن يدفع المواطن المستهلك وهو الحلقة الأضعف دائما ثمن كل السياسات والقرارات الاقتصادية.

هناك شبكة من النفوذ تمثلها مؤسسات المصالح والتحالفات شبه الإحتكارية والتي تدافع عن مصالح أعضائها وتحقق نجاحا كبيرا ضمن نظام السوق المفتوح ولكن المواطن هو الذي يدفع في النهاية ثمن كل هذه القرارات.

من أهم اسباب حالة إنفلات الأسعار إنسحاب الحكومة من ضبط السوق والاعتماد الكلي على أدوات السوق والتنافسية وتعددية العرض والطلب وهذه هي من أهم الانتقادات الموجهة لسياسات الإنفتاح الاقتصادي.

وهذا ما أدى إلى مطالبة الكثير من المعلقين والمحللين بضرورة العودة إلى نظام وزارة التموين ، ولكن هذا قد لا يكون حلا صحيحا في حال إعادة إنشاء جهاز بيروقراطي مثقل بالموظفين ومستنزف للموارد يصبح عبئا وجزءا من المشكلة لا جزءا من الحل.

الحكومة أشارت في عدة مرات إلى أن قانون التنافسية يمنع الاحتكار ويسمح للمواطنين ومؤسسات المجتمع المدني برفع الدعاوى على التجار المحتكرين كما أشارت إلى أن قانون حماية المستهلك الذي من المفترض أن يقره مجلس النواب إذا إجتمع إن شاء الله سوف يشكل نقلة نوعية في التشريعات تعطي الكثير من الحقوق والمزايا للمستهلكين لضبط السوق بأدوات تشريعية تتناسب مع اقتصاد السوق. ولكن الناس يحتاجون إلى حلول سريعة وإلى ضبط حكومي لهذه الحالة من الفوضى والتي تجعل كل شبكة نفوذ تقوم بتحويل ونقل الكلفة إلى المواطن المستهلك في نهاية الأمر والذي لا يجد اية شبكة مصالح تدافع عنه.

لقد تحدثت الحكومة عن التدخل في السوق واستخدام المواد القانونية التي تعطيها الحق في اعتبار بعض المواد الغذائية اساسية وتضبط سعرها وهناك حاجة ماسة لأن تمارس الحكومة ولايتها العامة لأن حالة الثقة الشعبية بالحكومة تتجه نحو التآكل وهذا له نتائج سياسية واقتصادية وخيمة.

نفهم أن النظام الاقتصادي المفتوح يقلص من قدرة الحكومة على ضبط الإنفلات الاقتصادي ولكن هناك الكثير من الخيارات التي يمكن تنفيذها في المجالات التشريعية والإدارية والتي من شأنها الحفاظ على مصالح الفئة الأضعف من المواطنين والتي لا تملك شبكة نفوذ لتدافع عنها.

في الكثير من القطاعات هناك "تشوهات" في السوق لا يمكن السماح باستمرارها مثل التحالفات الإحتكارية أو حتى الإحتكار الكامل من قبل شركات محددة مملوكة جزئيا للدولة وتمارس اسلوب القطاع الخاص أو شركات مخصصة للإستثمار الأجنبي وهذه الإحتكارات يجب أن تزول سريعا.

التجارب الدولية أشارت إلى أن سياسات منع الإحتكار هي التي تساهم في ضبط السوق تدريجيا ، ولكن المشكلة أن الكثير من القطاعات الهامة يتم السيطرة عليها من قبل مجموعة محدودة من الشركات التي تقسم السوق بينها أو تتحد معا لمواجهة قرار قد يؤثر على أرباحها ، وفي ذلك تجاوز واضح وصريح لمعايير التنافسية ، وهنا يجب أن تتدخل الحكومة بقوانينها وأدوات الضبط الخاصة بها.

batir@nets.jo



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد