مذكرات معلم ـ لازمني سيارة !‎

mainThumb

08-04-2015 09:25 PM

الراتب : مسمى بطلق على المكافأة أو الأجرة التي يتقاضاها الموظف مع نهاية كل شهر ؛ نظير التزامه بعمله المتفق عليه مع القطاع العام أو الخاص  ،
            ولكن وكما يعلم الكثيرون ؛ فإن غالبية رواتب الموظفين لا تعمر طويلا” ولا تقاوم لمنتصف الشهر ؛ فهي أشبه بالطيور المهاجرة والتي تحوم فوق رأسك لفترة وجيزة ، وما إن تراها عيناك حتى تمضي بعيدا” وترتحل  ؛ أو مثل أمواج البحر الخادعة والتي يركبها  الكثيرون بفرح„ غامر ؛ وما أن تحملهم حتى تتلاشى من تحت أقدامهم بسرعو ؛ فسيقطوا في عرض البحر وهم يصارعون الحياة وينادون  بلوعة  شديدة : النجدة  ؛ النجدة ...
          الشهر لم يزل في بدايته ، والمبلغ المتبقي في جيبي هو : خمس وثمانون دينارا” فقط  ،  وهي تمثل البقية الباقية من راتبي بعد شرآئي للحاجيات الملحة للبيت ؛ وبعد تسديدي جزء” من ديوني ؛ وبعد دفع الفواتير والإشتراكات المطلوبة مع نهاية كل شهر والتي لا تقبل التأجيل ...
         في تلك اللحظات الصعبة ؛ خاطبت الزوجة قائلا” لها : أتمنى بأن يمر هذا الشهر بخير ؛ وأتمنى بأن لا نضطر  للكشف على الراتب قبل نهاية هذا الشهر ؛ وأن لا نضطر للإقتراض من أحد  ... وقلت في نفسي إن أعسرت علينا الدنيا  ؛ فهذا فصل الربيع كله خير  ؛ ووجيات من قبيل : الخبيزة أو العكوب ... الخ ستساعد على إكمال الشهر بستر وستيرة وأمان ...
           خطة مرسومة في الخيال وغير مضمونة النجاح أبدا” ؛  فهي خطة للعيش ولا تحتمل المؤثرات وتتأثر بالصدمات مهما صغرت  ؛ خطة قد ينسفها هبة من الهواء تسببت بمرض وأحد من أفراد الأسرة ... وهذا الذي حصل  ...
        ففي إحدى الليالي المعتمة إرتفعت حرارة طفلي الصغير : محمد  ؛ واجهش في البكاء ، وتلوى كثيرا” من الآم بطنه الشديدة  ...  وهي الأعراض التي لا تحتمل التأجيل  ؛ لذا فقد لزم الإسراع بنقله إلى المستشفى الفريب دون تلكؤ   ؛ ولا سيما بعد الأنباء المخيفة عن إنتشار داء ( الخنازير ) ببن الناس في هذه الأيام  ....
          في تلك الليلة الصعبة فمت بأحضار إحدى سيارات الأجرة الخاصة ، ثم نقلت الولد الى المستشفى الجامعي القريب  ، وبعد يومين من المتابعات الحثيثة والعلاجات والتصوير ، أكد الأطباء بأنه مرضه : التهابات حادة باللوزتين وفي الأمعاء  ...
            وبعد اتمام العلاج قمت بدفع ستين دينارا اردنيا” ، وهي تمثل نسبة 20 % من تكاليف العلاج المقررة في المستشفى الجامعي ؛ وإذا أصفنا اليها أجور المواصلات ؛ فهذا يعني بإن الراتب قد تبخر سريعا” وارتحل !
          وعندها دخلت في دوامه من التفكير والتحري ؛ فمنذا الذي سيقرضني الآن من ماله ، منذا الذي سيقرضني في زمان تحول فيه الكثير من أصحاب رؤوس الأموال إلى ما يشبه البنوك المتحركة يشترون لك ويبعونك على فائدة البنوك ونظام البنوك   ... ثم قلت في نفسي : إذا كان علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه ) قد تذمر ممن كانوا حوله  في زمان كانت الناس فيه أفضل بالأف المرات يوم وصفهم فقال  : ( فما أكثر الأصدقاء حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل !!! ) لذا فلا شك بأن الأمر أصعب الف مرة في هذا الزمان  ...
             خلال دوامي المدرسي في اليوم التالي ؛ كانت علامات التعب والارهاق ظاهرة” على وجهي وعيني ... ولكن من الذي سيلتفت الي ؟ ومن الذي سيرحم حالي؟  وكان من الطبيعي أن يسئلك المدير : لماذا تأخرت يا أستاذ ؟ وكان من الطبيعي أن يقول لك مساعده المحترم : هيا أسرع لحصتك يا أستاذ ...  وخلال الحصة فلا مجال للتفكير هناك في مشاكلك الخاصة أبدا” ؛ فالطلاب يجبرونك على إشغالهم بإي شيء ؛  وإن لم تفعل فسيشغلوك بمشاكلهم التافهة ، وسيتعبوك بصراخهم وازعاجهم ، وبعد نوبات متوالية من الصراخ والزعيق ، قال لي بعض الطلاب  : يا أستاذ ؛ نريدك  أن ترافقنا في رحلة مدرسية ؛ يا أستاذ  !!!
         لم أصغي  لما يقولون ؛ ولم أستمع لمناشداتهم  ، فالذي كان يدور  في داخلي هو أصعب واكبر من أحلامهم ؛ والأسئلة في داخلي لا تنتهي : كيف سندبر مصاريف البيت لينتهي الشهر ؛ وبعد يومين من التفكير والبحث والإستقصاء  ؛ اقترضت المبلغ من  قريبي الذي يعمل معي في نفس المدرسة .
            وقلت في نفسي : نهاية الشهر لم تزل بعيدة ؛  والمبلغ الذي معي قد لا بكفي أبدا” ؛ فلا بد من سياسة صارمة للتقشف ولضبط النفقات ...
          بعد صلاة العشاء وقفت أمام سيارة بائع الفول الأخضر والذي قدم من إحدى القرى المجاورة للبلدة ؛ وقررت شراء كمية من الفول بفيمة ثلاث دنانير  ؛ وأعطيته عشرة دنانير من جيبي ؛ ثم إنطلقت بعدها لقص شعري في الصالون القريب من دلك المسجد ، وبعد إتمام الحلاقه ؛ فتشت جيوبي كاملة لأجد بقية العشرة دنانير والمفترض أن البائع المتجول قد أرجعها لي ولكنني لم أعثر على شيء  ، فذهبت لسؤال ذلك البائع : هل أعدت لي بقية العشرة دنانير بالفعل ، ولكنه كان مغادرا للمكان  ؛  وهنا قررت تقصي أثر المبلغ على خط سيري الممتد بين صالون الحلاقه وبين البائع المتجول ، فلعله ساقط من جيبي أثناء السير إلى صالون الحلاقة ؛ وخلال بحثي عن المبلغ المفقود شاهدني بعض الطلبة فسلموا علي ثم قالوا لي باستغراب شديد : والله يا أستاذ : لازمك سيارة !!!!! فقلت لهم وبحزن شديد : صدقتم ؛  لازمني سيارة ... !!!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد