مازال في العربِ بَقِيَّةٌ

mainThumb

01-01-2015 03:08 PM

لقد زرتُ قبل أيام أخاً وأيَّ أخٍ ، ما قصدتُه في شيءٍ إلا وَسَعَى سعىَ الكريم ، جلستُ عنده بعد المغرب ، وتجاذبنا أحوالَ المسلمين ، وما انصبَّ عليهم من مصائبَ كأنَّها الشَّآبيب ، في سوريا ، وفي ليبيا ، وفي مصر ( سيناء ) ، ولا أخفي القرَّاءَ أنّ ثَمَّتَ خلافاً في طريقة اصلاح الأوضاع بيني ، وبين أخي ( م ، و ) إلا أن هنالك قواسِمَ مشتركةً بيننا .

فأخبرتُ أخي : أنَّ طريقةَ الأنبياء في الإصلاح هي : الانشغال بإصلاح الرعيَّة ، وأن طريقة الخوارج هي الدندنة حول عيوب الحكَّام ، وإثارة الفتن ، وأنَّ زعيمَهم ذا الخويصرة التميمي ، كان أوَّلُ اعتراضه على سيد البشر في باب ( المال ) أي أنهم طُلَّاب دنيا فانية .

ثم ذهبَ بنا الحديثُ شرقاً ، وغرباً حتى رَسَتْ سفينَتُهُ على حكايةٍ حدثتْ لهذا الأخ الكريم ، ومفادها :

أنَّ هذا الأخ الكريم ذهب إلى مستشفى البشير ، هو وصديق آخر قد أنعم الله عليه من فضله ، تجوَّلا في أروقة المستشفى ، رأوا مرضى وسمعوا أنينَهم ، تَألَّما لهذه الأشياء ، وبينما يتجولان وقعتْ عينُ صديقي الكريم على مريضٍ يجلسُ على الأرض معصوبِ الرَّأسِ ، يَئِنُّ أنينَ مَنْ انقطعتْ به السُّبُلُ فلا حميمَ ، ولا أُمَّ ، ... حولَهُ !

كان هذا الشَّابُّ المُصابُ بطلقةٍ في أعلى الجمجمةِ من القطر المصري ، دفعه الفقرُ أنْ يُخاطرَ مع بعض الشبَّاب للهروب إلى أرض لبنان مروراً بِأُتون المطحنة التي تدورُ رحاها في بلاد الشَّام ، فَجاءَتْهُ رصاصةٌ عمياءَ لا تُمَيِّزُ بين بريءٍ ومتَّهم ، وهذا حال الفتن يذهب فيها الصالحُ ، والطَّالحُ !

وقد أقعَدَتْهُ تلك الرصاصةُ حتى أفسدَتْ أعصاب قدميه ، فهو مقعدٌ لا يستطيعُ القيام . وقفَ صديقي الكريم قُبالةَ هذا المسلمِ العربي المصري الذي لا معينَ ولا سند له في ديار الغربة إلا الله ، أوقع اللهُ في قلبه مساعدةَ هذا الغريب المُبْتَلى ، فنظر صديقي إلى صديقه الآخر الذي أنعم اللهُ عليه ، رَغْرَغتْ عينُهُ ، وسالتْ دَمْعَةٌ حَرَّى ؛ أحرقتْ كُلَّ الحواجزَ التي وضعها الأعداءُ بين أبناء الإسلام ، والعروبة ، واللغة ...

عرف صديقُهُ الغنيُّ ما وقع في قلب صديقهِ صاحبِ الدمعة العربية ، وقال له : لقد نويتُ على ما نويتَ عليه ، فقاموا بسؤال بعض الأطباء عن ملف هذا الغريب الذي انقطعتْ به السُبُلُ ، فأُخْبِرا : أنَّ عليه قيداً في محكمة أمن الدولة ، لِقُدومه من جهة طاحون الفتن في ديار الشام .

فقام صديقي الكريم بإحضار سيارة الاسعاف على حسابهم الخاص ، وتوجهوا جِهَةَ المحكمة ، فكان المدَّعي العام كريماً ، فنزل للمصاب ، وأسقط عنه الحَقَّ العام ، ولعلَّ المدعي العام قال : كفى هذا الغريب ما حلَّ به من مصاب .

فقام الصديقُ الغني بحجز مقعدين في طائرة متوجِّهَة صوب ديار عمرو بن العاص – رضي الله عنه – ( مصر ) ، فقال هذا الصديقُ : واللهِ مالي مُعينٌ في حمله ، واتِّكائه عليَّ في مطار القاهرة ، وكان يحملُ عنوانه الذي أخذه من بعض المعرفين عليه ، فكانت قرية الغريب المصاب في أقصى صعيد مصر ، فاستأجر له سيارةً ، وانطلق به إلى أهلهِ يطوي الأرضَ طَيَّا ، فلما وصل إلى أهله ، وجدهم على حالةٍ يُرْثى لها من العَوَزِ والفقر ، فقام بشراء الحاجيات لهم ، ومكث عندهم يومين ، فلم يترك ديناراً في جيبه إلا وأنفقه عليهم ، ولم يُبْقِ إلا ما يساعدُه في العودة إلى دياره في الأردن !

هذا هو العملُ الذي تُدْفَعُ به البلايا ، وهذا هو العملُ الذي ينفعُ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون ، وصدق رسولنا – صلى الله عليه وسلم – إذ قال :
( صنائعُ المعروفِ ؛ تَقي مصاريعَ السوء ) .
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد