قرأتُ خاطرةً لاحدى الأخوات عبر موقع التواصل الاجتماعي حولَ الوحدة ، والابتعاد عن الناس لِكثرة شرورهم ...
فقمتُ بوضع تعليقٍ يناسب الخاطرةَ ، وهو بيتُ شعرٍ لشاعرٍ يُعَدُّ من لصوص العرب وَشُطَّارهم ، وهو الأُحَيْمر السَّعدي التميمي ، وكان له مَذْهبٌ غريب في ممارسة السرقة ، كان يستحي أن يسألَ الناسَ ، وهو يستطيعُ النَّهْبَ ، والسرقة !
ومسألة اللصوصية ألَّف فيها بعضُ الكُتَّاب مثل الجاحظ ، أَلَّف كتاب ( حِيَلُ اللصوص ) !
وقد جاءت الأمثال في بعضهم مثل :
( أسرقُ من شِظِاظ ) ، وهو رجلٌ من بني ضَبَّةَ ، كانَ يُصيبُ الطَّريقَ ، ومرَّةً مرَّ بعجوزٍ نُميريَّة تعقِلُ بعيراً لها ، وتتعوَّذُ من شِظِاظٍ ، فسمعها ، وتحايل عليها حتى أخذ البعيرَ ، وهرب إلا أنه شَفِقَ عليها وتركَ لها بعضَ الجمال الصغيرة عِوَضاً عن بعيرها الذي شرد به ، وقال :
رُبَّ عَجوزٍ من نُمَيْرٍ شَهْبَرَهْ
..... عَلَّمْتُها الانقاضَ بعد القَرْقَرَهْ .
والانقاض : صوتُ صغار الإبل ، والقَرْقَرة : صوتُ مَسَآنِّها .
أي أنَّه عوَّضَها صوتَ البعير الصغير من صوت البعير الكبير !
وممن ذُكِرَ في الأمثال : ( بُرْجَان ) ، فقالوا :
( أَسْرَقُ من بُرْجَان ) ، وهو لِصٌّ من أهلِ الكُوْفَةِ من موالي بني امرئ القيس ، صلبه مالكُ بن المنذر ، فسرقَ وهو مصلوب !!
وعوداً على اللصِّ الأُحَيْمر السَّعْدي ، ومذهبه الغريب في السرقة ، الذي عرفناه من خلال أبياته التي كشف فيها عن نظرته للسرقة ، وأنها خيرٌ من سؤال الناس ، وفي أبياته الشعريَّة يتبينُ لنا أنَّه لِصٌّ من الطِّراز الأوَّل حيث له صولاتٌ في عدَّة أماكن متباعدة مثل العراق ، والشام ، ونجد ، وكرمان ، والجوف ...
وله رِفْقَةٌ من اللصوص يمدحهم مدحاً عظيما ، يصفهم بالفتوة ، وأنَّ وجوهَهم البدرُ !
قال الأُحَيْمر السَّعْدي :
عَوى الذئبُ ؛ فاستَأْنَسْتُ بالذئبِ إذْ عَوى
..... وَصَوَّتَ إنْسِيٌّ ؛ فَكِدْتُ أَطيرُ
يَرى اللهُ إنِّي لِلْأُنَيْسِ لَكَارِهٌ
..... وَتُبْغِضُهُمْ لِيْ مُقْلَةٌ وضميرُ
فَلليلِ ، إنْ واراني الليلُ حُكْمُهُ
..... ولِلشَّمسِ ، إنْ غابتْ عليَّ نُذُوْرُ
وإنِّي لَأَسْتَحْيي مِنَ اللهِ أَنْ أُرَى
..... أُجَرِّرُ حَبْلاً ليس فيه بَعيرُ
وأنْ أَسألَ المرءَ اللئيمَ بَعيرَهُ
..... وبُعْرانُ رَبِّيْ في البلادِ كَثيرُ .
فالأحيمرُ يستأنسُ بصوت الذئاب ، وهو يقصد أنه يحبُّ الفيافي والقِفار التي هي مواطنُ الذئاب والوحوش ، ولا يكادُ يقتربُ من مواطن الإنس ؛ لأنَّه مُبْغِضٌ لهم كارهٌ لِحِسِّهم ورِكْزِهِمْ ، وقد كَرَّر الأُحيمرُ لفظة الذئب والعواء في صدر البيت الأوَّل مَرَّتين مرَّتين ؛ وذلك لِشِدَّةِ انقباضه عن الناس كما يفعلُ الذئبُ ، فهو أعرقُ السِّباع تَوَحُّشا ونفوراً من بني آدم ، وهو سلالةُ الغدر والخَتْل والخيانة ، فهو عاشقُ الدَّم والفتك بأقرب الأشياء له ، فإنْ رأى دَماً بصاحبتِه هجم عليها ، قال الشاعرُ في ذلك :
فكنتَ كذئب السوء ...
واسمُ الذئب جاء من كلمة ( تذاؤب الريح ) وهي أن تأتي الريح مرة من يمينك ومرة عن يسارك ومرَّةً من خلفك ... وهذا فعلُ الذئب بفريسته ، وكذلك فِعْلُ الشُّطَّار ومنهم هذا الأُحيمر السعدي .
والذئبُ مَعْدنُ الغدر وجوهرِهِ ؛ فلذلك ضُرِب المثل في الغدر به ، فقيل : أغدرُ من ذئب ، ومن الموافقات العجيبة والغريبة ، أن البطن الذي منه الأُحيمر السعدي ، ضُرِبَ الغدرُ بهم فقيل : أغْدرُ من كُنَاةِ الغدر وهم بنو سعد ، فقد كانوا يُسَمُّون الغدرَ : ( كيسان ) ! قال النّمرُ بنُ تولب :
إذا كنتَ في سعدٍ ، وأُمُّكَ منهمُ
..... غريباً ، فلا يَغْرُرْكَ خالُكَ من سعدِ
إذا ما دَعَوْا كيسانَ ، كانتْ كُهُوْلُهُم
..... إلى الغَدْرِ أَدْنى من شبابِهم المُرْدِ !
فهناك توافقٌ بين الأُحيمر وبين الذئب وطباعه ، فلا استغراب إذا إن استأنس به ، وبعوائه .
فهو اذا سمع صوت الإنسان ؛ انخلع قلبُهُ من جوفه وَحَاشَةً منه ، ونفورا .
ثم يذكرُ الأُحَيْمرُ الإنسان بصيغة التصغير احتقارا له ، فيقول : ( الأُنيس ) ، وَكُلُّ حواسِّه تنفرُ وتبعضُ هذا الأُنيس ، العينُ والضميرُ !
وهذا البغضُ والكُرْهُ لبني الإنس ؛ يدفعُ الأُحَيْمِرَ السعدي أن يَدَّرِعَ الليلَ ، ويراقبُ غيابَ الشمسِ حتى يمارس النَّهبَ والسَّلْبَ ، فهو ذئبٌ ليليٌّ يباغِتُ بني آدمَ تحقيقاً لما يُضْمِرُه لهم من إحَنٍ ، وكتائفَ .
ثم يقرِّرُ هذا الأُحيمرُ مَذْهَبَهُ في السَّرقة ، ويكشفُ اللثامَ عنه ، فهو مُسْتَحٍ من اللهِ ، أن يكون على حالةٍ من خُلُوِّ حَبْلِه من البعير ، وسؤال اللئيم بعيراً ، وهذه الأباعرُ منتشرةً في البلاد ، فالنَّهبُ والسرقةُ خيرٌ من سؤال اللئيم من الناس !
نعم نحن نؤيد الأُحيمرَ في عدم سؤال الناس قاطبةً ،ويتوكَّدُ المنعُ في حقِّ اللئيم ، لأنَّ سؤالَ الناس مَذَلَّةً ، وقد نهى عنه الإسلام إلا في حالاتٍ ضيِّقَةٍ معروفة في دواوين السنة المطهرة .
بل اعتبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عِزَّ المؤمن استغناءَه عن الناس كما جاء في الحديث الصحيح .
ولكن نخالف الأُحيمرَ فيما قرَّرَه من الإغارة على الأباعر التي هي مُلْكُ الآخرين ، التي جعلها الأحيمر : ( بعران ربِّي في البلاد كثيرُ ) !
وهذا يُذَكِّرُني بفعل الخوارج العصريين الذين يرون – دينا – سرقة الأموال العامة بل والخاصة لأنهم يرون هؤلاء كُفَّاراً !