التحضر بناء جديد قابل للتجديد

mainThumb

18-10-2014 08:23 PM

لكل أمة حية حضارتها,ولكل حضارة منها تميزها في مجال أو أكثر من المجالات الإنتاجية والحرفية والثقافية والعلمية.ومن أبرز صفات الحضارة ,أي حضارة حيوية اتسعت فيها المنجزات الفكرية والعلمية وتطورت وارتقت منجزاتها إلى مستوى وجد فيها  الإنسان ضالته,وتمكن من تسخيرها كوسيلة وأو  أداة من أدوات عمله وتحقيق منجزات يستخدمها في حياته اليومية ويعظم من خلالها عطاؤه, لدى شعب أمة من الشعوبالأمم قابليتها للانتشار والانتقال للتداول بين شعوب الأرض وأممها بتعدد انتماءاتها وتنوع ولاءاتها واختلاف لغاتها,وثقافاتها وطقوس عباداتها ولغة مخاطبتها السماء.

الحضارة ليست خليقة من فراغ,ولم تكن ظاهرة مستوطنة في بقعة من الأرض العامرة وطنت آثارها فيها دون سواها وإن لبست ثوب تسمية الأمة التي ترعرعت فيها ونمت في حواضنها الفكرية والمؤسسات العلمية والتقنية.وهي بطبيعتها النهضوية,ومزيتها الاستيعابية للتجارب الإنسانية تكون منفتحة على العالم ومتجاوبة مع ضرورات التقدم وتنمية الفرد ومجتمعه,واكتساب الخبرات اللازمة لتماهيها مع الحضارات المتزامنة معها,وقريبة من تطور الفكر البشري ومتابعة بجدية واهتمام لمنجزات الشعوب الأخرى في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والفنية والعلمية والأدبية والنقدية والموسيقية والطربية والغنائيه والشعرية وفنون الرقص  والرسم والنحت التي تصنع الأساس التمهيديي لسمعة الحضارة وغناها وشهرتها .... وكل ما تجود به قرائح البشر(وهنا بيت القصيد الذي تتجلى فيه الأهمية العظمى لسعة الحرية الفردية ومساحتها ومجالاتها وفضاؤها) من آليات ومن تقنيات ومن فعاليات تُغْني حياة الإنسان المادية والمعرفية والأمنية والمعنوية وتعمل على ضمان الاستقرار الاجتماعي والتوسع في تنويع وسائل الترفيه والراحة النفسية والعقلية والجسدية له.

بنية الحضارة تبدأ عادة بمنظومة من القيم التي تترجمها كافة أنشطة البنى الحضارية وهياكلها وترفع عالياً رايتها.ونلاحظ أن لكل حضارة منظومة قيم لا تتطابق بالضرورة مع غيرها من المنظومات القيمية للحضارات الأخرى,وإن تلاقت عند هدفها الأسمى الذي يستهدف أمن الإنسان وسعادته والحفاظ على كرامته.ويعود ذلك إلى حقيقة التعددية التي هي السمة العامة لكل ما خلقت السماء وأوجدته على هذه الأرض وجوفها والبحار وأعماقها وفي الفضاءات والأحرام والأقمار العالية,وعلى تراث الشعوب المختلفة وعلى أنماط الحضارة ومجالاتها وعلى قيم الإنسان وقيم الحضارة وكل منظومة قيم تسود في عالمنا منذ بدأت الحياة وحتى يفنى الوجود بما عليه.والتعددية كانت على الدوام مصدرإثراء للمعرفة,وإغناء لتراث البشرية وتعاونها وهي مفتاح العقل الناضج,والضمير المتنور لكل أبواب التقدم والترقي الدائمي الحركة والحيوية.والتعددية طريق واضح للتفوق الحضاري الذي تتسابق للوصول إليه أمم الأرض وشعوبها.

تُقر حقائق التاريخ المتفق عليها بين مختلف مرجعيات المؤرخين وانتسابهم ,أن ما سطره المخزون التاريخي,بأنه وكما يقول بروس مازليش :إن ما أصبحنا ندعوه حضارة,نشأ في أول الأمر في مناطق تمثل الآن سوريا والعراق ومصر.وهذه إشارة تعبر عن حقيقة تاريخية من الأجدر بنا كمواطنين في تلك الدول أنْ ترتفع معنوياتنا,وأن نرتقي بفكرنا إلى ما يؤكد نسبنا إلى تلك الحضارة.وليس في هذا   ادعاء بغياب حضارات أخرى شهدتها شعوب الشرق بشكل عام,مثل الصين والهند,ولكن تظل الأسبقية لما عرفه الناس من أسبقية حضارتنا والتي من المؤكد   إنها كانت حضارة منفتحة على الآخر,متجاوبة مع طبيعة التبادل الحضاري والانتقال بقيم الحضارة من مكان إلى آخر بتفاعلية واعية ومستوعبة لمستقبل الازدهار في المنجزات الحضارية عن طريق تعدد مواقعها الجغرافية.والدليل على ذلك أن الحضارة الغربية بنت منجزاتها على نقلها منجزات تلك الحضارة.



الأمة العربية في كياناتها السياسية وفي صراعها الطائفي والمذهبي والعرقي في هذه الحقبة الأكثر سواداً من تاريخها الذي حمله لها الغرب المستعمر بمسمى الربيع الذي خص به العرب,تعيش وضعاً مأساوياً مذهلاً وموغلاً في المآسي التي حلت بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب,ومتورماً في حجم الحقد الذي يحمله في قلبه كل فريق ضد الفرقاء الآخرين,وفي شهوة الحكم التي استعصت في عقول بعض جماعاتها المسيسة مما أباح القتل والترويع والتخويف بشعارات تحتال على النصوص الدينية,وتحريف قيم الدين الذي أرسله الله للبشر لتهذيب سلوكهم ومأمن معاشهم وكفل أمن تجاورهم وتعايشهم كأبناء الله الذي خلق البشر على صورته.حال مأساوياً إنسانياً,متخلف حضارياً,ومنحدر إلى الهاوية أخلاقياً.

أمة نشأت الحضارة المدنية في موطنها,ونشأت في أرضها الحضارة الدينية حيث نزلت الأديان السماوية في مرابعها.أمة حمل أقدموها هذين المشعلين قدوة للخلق الرفيع والحلم الواسع,كانت نفوسهم ممتزجة بالقيم الروحية والقيم الأخلاقية وكل المعاني السامية الراقية من معاني السماحة والتسامح والتراحم,والتلاقح الفكري والثقافي,والانفتاح وقبول الآخر واحترام الأنساب والأعراق والآراء......

أما ما يثير الاستغراب والدهشة فيما وصلت إليه مستويات الثقافة في المجتمعات العربية ولدى بعض الطامعين في ثرواتها والعاملين على إبقائها غارقة في ظلمة فكرية,وقالب ثقافي مصمت التصميم والفهم المتزمت لإعادة الألق الحضاري للأمة العربية وذلك بالعودة بالتاريخ نفسه دون الأخذ بعين الاعتبار لعاملي الزمن والظرف المكاني والمستوى الحضاري الذي يسود العالم.فكر مشوش حول علاقة سلوك البشر الحالي بسلوك أسلافهم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان,على الرغم من الكم الهائل والنوعي من التغير ومن أسباب التقدم ومن الوسائل التقنية التي نقلت عالم اليوم بالعلم والتقنية إلى شكل جديد من أشمال الحضارة وقيمها,ونمط جديد من الحكم ومن دور العامة في تقرير مصيرهم وتحديد مستقبلهم,وأن الدولة في عالم اليوم هي دولة لمواطنة,بحقوق مصانة وواجبات مستساغة من كل مواطن.دولة قانون تعددية اجتماعية مقر بالتوافق والتفاهم,تكون المساواة فيه غير قابلة للمساومة أو المتاجرة.وهي دولة الحرية والتعددية والديمقراطية.

من حقنا كأمة عربية لها تاريخها الحضاري العريق أن نعود إلى تاريخنا وتراثه الذي يغذي خطانا معنوياً على التزام أسباب التحضر والتقدم بالعلم منهجاً,وبالخلق الديني التزاماً,وبالقيم الإنسانية تجاوباً.فالعودة إلى التاريخ مهمة ثقافية وواجب أدبي وطني في تراثنا المعاصر وهي متاحة لكل من يرى حاجته إليها.أما العودة بالتاريخ,فمهمة مستحيلة لأنها ضد طبيعة الأشياء,وضد منهج العلم,ومنافية لمتطلبات العصر.والعودة بالتاريخ عبء شاق لا تقوى على حمله أعظم الشعوب شدة وتصميماً وبأساً. 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد