مَرُّ السحاب لا ريثٌ ، ولا عَجَلُ

mainThumb

14-10-2014 10:54 AM

لقد جاء في الشعر وصف مِشْيَة المرأة العربية ، وقد أجاد الوصفَ شعراؤنا أيَّما إجادة في ذلك ! فالمرأةُ هي الأنثى وهي الناعمة واللينة في حديثها وسلوكها ومِشْيَتِها ، فهي متاعُ الرجل الذي يستأنسُ به وتنسيه قساوَةَ الحياة ، فإذا آوى إلى مسكنه ، وجدها بكامل جمالها الحسي والمعنوي ، ولهذا خُلِقَتْ بعد توحيد الله – عزَّ وجلَّ – أما ما نراه من هجمة شرسة من قِبَل أعداء الاسلام على المرأة المسلمة بأنها في قيود وأغلال ترسف فيها كالأسير في أيدي الأعداء ، يريدونها منْحَلَّةً من دينها وشرفها بل من أُنوثتها ، وإن ذكروا الأنوثة ؛ فلافتراسها وتدنيس عِفَّتِها !

المرأة العربية تَغنَّى بها شعراؤنا وذكروا حياءها مدحاً ، ورددوا أنغامَ عفَّتها ، وسترَها .

ومن وصفهم للمرأة العربية ، وصفُ مِشْيَتِها الذي يليق بأنوثتها وجمالها وحيائها ، فهذا الأعشى الجاهلي يُبْدِعُ في نَعْتِ مِشْيَتِها :

وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنْ الرَّكْبَ مُرْتَحَلٌ
..... وهلْ تُطيقُ وداعاً ، أيُّها الرَّجُلُ

غَرَّاءُ ، فَرْعاءُ ، مَصْقولٌ عوارِضُها
..... تَمْشِيْ الهُوَيْنا كما يَمْشي الوَجِي الوَحِلُ

كأنَّ مِشْيَتَها من بيتِ جارتِها
..... مَرُّ السَّحابَةِ لا ريثٌ ، ولا عَجِلُ

تَسْمَعُ لِلْحلْي وسواساً ، إذا انصرفتْ
..... كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ

يكادُ يَصْرَعُها ، لولا تَشَدُّدُها
..... إذا تقومُ إلى جاراتِها ، الكَسَلُ

فهو يصف مِشْيَتَها بالاعتدال بين البُطْءِ والسُّرْعَةِ ، مثلَ سحابةٍ تسوقها ريحٌ لَيِّنَةٌ مُعْتَدِلَةٌ لا عاصِفةً ولا مُتَماوِتَةً ، بين بين !

وفي ذكر السحابة نُكْتَةٌ لذيذة وهي : رمز الطهر ورمز الحياة والعلوِّ والرفعة !

فهي أليقُ بالأنوثة واللين والتَّكَسُّر الذي يزيد المرأةَ جمالاً وبهاءً .

قال عمر بن لَجَأ :

أَسِيْلَةُ مَعْقِدِ السِّمْطَين منها
..... ورَيَّا حيثُ تَعْتَقِدُ الحِقَابا

إذا مالتْ رَوَادِفُها بِمَتْنٍ
..... كَغُصْنِ البانِ فاضطربَ اضطرابا

تهادى في الثياب كما تهادى
..... حَبَابُ الماءِ يَتَّبِعُ الحَبَابَا .

قال العلامة الأديب محمود شاكر – رحمه الله - في ( طبقات فحول الشعراء ) ( 2 / 591 ) :

( وتهادتْ المرأةُ في مشيتها : تمايلتْ قليلا في سكون وخيلاء ، والتهادي أحلى مشيهنَّ ، ولكن نساءُ زماننا يُرِدْنَ أن يمشينَ مشياً مُذَكَّرا ! ) .

وصدق محمود شاكر فإنَّ نساء اليوم يتعمَّدن تقليد الذكران في المشية والشكل !

وقد نهى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يتشبه الرجالُ بالنساء ، والنساءُ بالرجال ، فنحن نرى الأمرين ولا حول ولا قوة إلا بالله !

ومما نُسِبَ إلى مسلم بن الوليد :

مَرِيْضاتُ أوباتِ التَّهادي كأنَّما
..... تَخَافُ على أَحْشائها أنْ تَقَطَّعا

تَسِيْبُ انسيابَ الأَيْمِ أخْصَرَهُ النَّدى
..... فَرَفَّعَ من أعْطافِهِ ما تَرَفَّعا .

قال الخطيبُ التبريزي في ( شرح ديوان الحماسة ) ( 2 / 774 ) :

( والتَّهادي : المشي بين اثنين ، يُقال : رأيتُهُ يُهادى بين اثنين ، ويتهادى ، يصفها بالنعمةِ ، وضعف الحركةِ لِثِقَلِ رِدْفِها ودِقَّةِ خصرها ... والأيمُ الأينُ : الجانُ من الحيَّات ، والحيَّةُ لا تصبرُ على البردِ ؛ لأنَّهُ إذا أَثَّرَ فيها يَبِسَ جِرْمُها ، وتنسابُ : أي تتدافعُ في مشيتها ، ... ) .

فهو يصف مشيتها بالتهادي وهو أحلى مشيِهِنَّ ، كما قال العلامةُ ابنُ شاكر ، وأضاف ابنُ الوليد سببَ هذا التهادي في المشية ؛ وهو ثِقَلُ رِدْفها ودِقَّةُ خصرها ، واهتزاز الأرداف أثناء القيام أو المشي شبَّهَهُ الشعراءُ بكثيب الرمل الذي ينهال ثم لا ينهال !

قال منظور بن مرثد :

جارية بسفوانَ دارُها
..... يَرْتَجُّ عن مثلِ النَّقا إزارُها

قد أَعْصَرَتْ أو قد دنا إعصارُها .

فهو يصفُ ارتجاج الإزارِ الذي يسترُ أردافَها ، بكثيب النَّقا ( الرمل ) المنهال ببطء !

وأعصرتْ الجارية : أي أدركتْ وحاضتْ وأصبحتْ امرأةً .

وكأنّها دخلتْ عصرَ شبابِها .

وقال ابنُ مرثد – أيضا - :

يا حَبَّذا جاريةٌ مِنْ عَكٍّ
..... تُعَقِّدُ المِرْطَ على مِدَكٍّ

مِثلَ كثيبِ الرَّمْلِ غير رِكِّ .

فقد تتابع الشعراءُ على وصف رِدْفِ المرأةِ بكثيب الرمل ، وأن هذا الكثيب يترجرجُ أثناء القيام وأثناء المشي ، وأعطوا هذا الكثيب صفةً زائدةً وهو الابتلال بماء المطر حتى يحافظَ على ثباته رغم اضطرابه وترجرجِهِ .

قال الرَّاجزُ :

جُبْنَ بأَعْجازٍ لَهُنَّ ناوِيَهْ
..... كَأَنَّها الكُثْبانُ غِبَّ ساريَهْ .

والناويهْ : السِّمانُ ، من النَيِّ وهو الشحم .

وقال الآخرُ :

مِثْلُ الكثيبِ إذا ما بَلَّهْ المَطَرُ .

وقال مرداس بن أبي عامر السُّلمي :

إذا هيَ قامَتْ في النِّساءِ حَسِبْتَ ما
..... ُوَيْقَ نِطاقِ العِقْدِ صَعْدَةَ سَأْسَمِ

وأَسْفَلُ مِنْهُ ظَهْرُ دِعْصٍ أَصابَهُ
..... نَجَاءُ السِّماكِ في الكثيب المُخَيَّمِ .

وقال الأخضر الفزاري :

تَلُوْثُ أَثْناءَ اللِّفاعِ الأَتْحَمي
..... بِمِثْلِ دِعْصِ الرَّمْلَةِ المُدَيَّمِ .

والمُدَيَّم : الذي أصابه ماءُ ديمة ، وهي السحابة .

وقال امرؤ القيس في ذلك وأجاد :

كَحِقْفِ النَّقا يمشي الوَلِيْدانِ فوقَهُ
..... بما احْتَبَسَا مِنْ لِيْنِ مَسٍّ وَتَسْهَالِ .

والحِقْفُ : المستدير من الرمل الذي نخلتْهُ الريحُ وجمعتْهُ ، ويمشي الوليدان فوقه ؛ لأنه مُبْتَلٌّ ومتماسك رغم نعومته ولينه .

وقال عبدالرحمن بن حسان :

وإنْ مالَ الضَّجيعُ بها فَدِعْصٌ
..... مِنَ الكُثْبانِ مُلْتَبِدٌ مَطِيْرُ ,

فهم يذكرون أعجازَ النساء بالكثيب الرملي الذي أصابه بَلَلٌ من مطر السماء .

وقال رؤبة بن العجاج :

إذا وَصَلْنَ العَوْمَ بالهِرْكَلِّ
..... رَجْرَجْنَ مِنْ أَعجازِهِنَّ الخُزْلِ

أَوْرَاكَ رَمْلٍ والجٍ في رَمْلِ .

ويقصد  بأوراك رمل والج في رمل  : أي ولوجُهُ تحرُّكُهُ ، ودخولُ بعضِهِ في بعضِ .

والعوم ، قصد به : مشيتها بلين ، كعائم فوق الماء ، والهِرْكَلُّ : هوضربٌ من المشي فيه اختيالٌ و بُطْءٌ .

كما قال الآخرُ :

قامَتْ تهادى مَشْيُها الهِرْكَلا
..... بينَ فناءِ البيتِ والمُصَلَّى .

وقال الأعشى :

رَوَادِفُهُ تَثْني الرِّداءَ تَسَانَدَتْ
..... إلى مِثْلِ دِعْصِ الرَّمْلَةِ المُتَهَيِّلِ

نِيَافٌ كَغُصْنِ البانِ تَرْتَجُّ إنْ مَشَتْ
..... دَبِيْبَ قطا البطحاءِ في كُلِّ مَنْهَلِ .

فالارتجاج في أعجازِهنَّ حال المشي .

وقال رؤبة – أيضا - :

مَيَّالةٌ مِثْلُ الكثيبِ المُنْهالِ
..... عَزَّزَ مِنْهُ ، وهو مُعْطِي الأَسْهالْ

ضَرْبُ السَّواري مَتْنَهُ بالتَّهْتالْ .

والسواري جمع سارية وهي سحابة تسري بالليل ، والتَّهْتال هو التهتان وهو سقوط المطر وانهلالُه .

فعجزُها مثلُ كثيبِ رملٍ ، أصابه مطرٌ من سارية بليلٍ ، وهذا البللُ يمنعه من الانهيال والذهاب ، وإنْ تحرَّكَ وتَرَجْرَجَ .

قال ابنُ أبي سفيان الغامدي :

ذاتَ شَوىً عَبْلٍ وَخَصْرٍ أَبْتَلِ
..... وَكَفَلٍ مِثْلِ الكثيبِ الأَهْيَلِ .

الشوى : الأطراف كاليدين والرجلين ، العبل : الضخم الممتلئ ، وأبْتَل :

المنقطع ، فالخصرُ من شدَّة دقَّتِهِ يكادُ ينقطعُ ، والكفل : العجزُ فهو ضخمٌ مثل كثيب الرمل الذي يكاد ينهال من نعومته وليونه ! ولكن يمنعه من الانهيال البللُ والذي أصابه من السواري والدِّيَمِ .

ونختم هذه المقالة بقولٍ رائعٍ في وصف مشْيَةِ المرأة وارتجاج الأرداف لتميم بن أبي بن مقبل :

يمشين هَيْلَ النَّقا مالتْ جَوَانِبُهُ
..... يَنْهالُ حيناً ، وينهاه الثَّرى حينا

يَهْزُزْنَ للمشي أوصالاً مُنَعَّمَةً
..... هَزَّ الجَنُوبِ ضُحَى عِيْدانَ يَبْرِيْنا

أو كاهتزازِ رُدَيْنِيٍّ تَدَاوَلَهُ
..... أَيْدِيْ التِّجارِ ؛ فَزَادوا مَتْنَهُ لِيْنا

قال الآمدي في ( الموازنة ) ( 140 ) :

( فشَبَّهَ تميمٌ قُدُوْدَهُنَّ بالرُّدَيْنِي للينه وتثَنِّيْهِ لا غيرَ ، هذا أجودُ من كلِّ ما قاله الناس في مَشْي النساء وَحُسْنِ قُدُوْدِهِنَّ ... ) .

وقال – أيضاً – في ( الموازنة ) ( 355 ) :

( والذي شرحَ هذين المعنيين أَتَمَّ الشرح ، وأَبَرَّ في الوصف على كلِّ مُحْسِنٍ ، تميمُ بن أُبَيٍّ بن مقبل في قوله يصف مَشْي النساء :

يمشين هَيْلَ النَّقا مالتْ جَوَانِبُهُ
..... يَنْهالُ حيناً ، وينهاه الثَّرى حينا .

إنما أراد بقوله :  ينهال حينا  تحرك أعجازِهِنَّ إذا مَشَيْنَ كما يَتَحَرَّكُ جانبُ الرَّمْلَةِ للإنهيال ، فينهاه الثَّرى ، وهو ما تحته من التراب أو الرمل النَّدِيْ ، وهذا لا شيء أوضح منه ) .

فهذا من أبدع ما وُصِفَ به مشيُ النساء ، فالنساء عند مشيهن تهتزَّ أَعْجازُهُنَّ مثل كثيب الرمل الذي مال للإنهيال إلا أن نداوة الثرى تمنعه من الانهيال ، فهو يوحي لك بالانهيال الا انه متماسك وثابت بسبب ما يمنعه من الثرى ، والثرى هو ما كان تحت التراب من بللٍ ونداوة .

وهي فتاةٌ مُنَعَّمَةٌ ، لم تَمْتَهِنْ فهو أجودُ لنضارتها وطراوتها ، فأوصالُها تهتزُّ ، مثل اهتزاز العِيْدانِ وهو النَّخْل الطِّوالُ ، وريحُ الجنوب إذا جاءتْ - وقتَ الضُّحى – كانت لطيفةً ، لَيِّنَةً تُمِيْلُ النَّخْلَ الطِّوالَ إمالةً رائعةً !

فما أجملَ هذا الوصفَ الذي يتقازَمُ عنده كُلُّ أَدبِ الحداثة إنْ جاز لنا تسميَتُهُ بالأدب .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد