هدية المشرقي الجذامي لأخيه المغربي

mainThumb

20-09-2014 04:12 PM

أخٌ من المغرب مُحِبٌّ للعربية ، يعشقُها ، فهي دثارُه ، وشِعارُه ، يتغنَّى بها بين من رَطَنَ رطانةَ الأعاجم ، ورفع رأسَه بها في زمنٍ نكَّسَ البعضُ رؤوسَهم منها خجلا وحياءً أن يَنْتَسُبوا اليها !

هو الأخ المفضالُ ( أبو حاتم سفيان ) المغربي ، ردَّدَ بيتين للأكمهِ ( بشار بن برد ) معجباً بهما ، مفتوناً بملاحتهما ، وحُقَّ له ذلك ؛ فهي لغةٌ بهرتْ الدُّنيا ، وغنَّى بها الأعاجمُ يوما في ديار أسبانيا لما كانَ أهلُها هم الناسُ .

وقد أَحْسَنَ الأخُ المغربي الظنَّ بأخيه المشرقي ( الترباني ) ؛ فطلب منه شرحاً لهذين البيتين ، وإظهارَ رَقْرَاقِ حسنِهما ، فلبَّى المشرقيُّ الطَّلبَ ، لأنَّ أمشاجَ العلم ؛ كأمشاجِ الرَّحمِ ، فمِنَ اللهِ العونُ ، وعليه قصدُ السبيل .

قال الأَكْمَهُ بشَّارُ بن برد العُقيلي - ولاءً لا صُراحاً - :

وَحوراءُ المَدَامِعِ مِنْ مَعَدٍّ
..... كَأَنَّ حديثَها قِطَعُ الجُمَانِ

إذا قامَتْ لِسُبْحَتِها تَثَنَّتْ
..... كَأَنَّ عِظَامَها مِنِ خَيْزَرَانِ .

بشارُ بن برد رجلٌ وِلَدَ أعمى وهذا ما يُسَمّى بالأكْمَهِ ، وجُلُّ اعتماده على حاسَّةِ السَّمْعِ ، وهو صاحبُ البيت الشرود :

يا قوم أُذُني لبعضِ الحيِّ عاشِقَةٌ
..... والأُذُنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا .

وقول بشار : ( وحوراءُ المدامع ... ) له قِصَّةٌ يَحْسُنُ ذكرُها هنا :

جاء في ( الغيثُ المسجم ... ) ( 1 / 418 ) :

( حُكِيَ أنَّ بشاراً لما سمع قولَ ( كُثَيِّرعزَّة ) :

ألا إنَّما ليلى عصا خَيْزُرانَةٍ
..... إذا غَمَزوها بالأَكُفِّ تلينُ !

قال ( بشار ) : قاتل اللهُ أبا صخرٍ يزعمُ أنَّها عصا ، ويعتذر بأنَّها خيزرانة ، والله لو قال : عصا مُخٍّ أو عصا زُبْدٍ لكان قد هَجَّنَهُ ، ذِكْرُ العصا ، هَلَّا قال كما قلتُ : ... ) ، وذكر البيتين .

فكما ترى سببَ قولِ هذين البيتين هو الردُّ على هُجْنَةِ بيتِ ( كُثَيِّرعزَّة ) في ذكر لفظة ( العصا ) .

فبشار بن برد بدأ بذكر العين الحوراء من هذه الفتاة المَعَدِّيَّة – نسبة الى معَدٍّ – وهو ابن عدنان جَدُّ العرب العدنانيين ، والحَوَرُ من أجمل صفات العين ؛ وهو شدَّةُ بياض العين مع شِدَّةِ سوادها ، وهذا هو غالبُ عيون نساء العرب ، فلذلك جعل الله – عزَّ وجلَّ – صفات نساء الجنة على هذه الشِّيَةِ ( الحَوَرُ ) ، قال تعالى :

(حور مقصورات في الخيام ، فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) .

فغايةُ الجمال هو ما أعَدَّهُ اللهُ – عزَّ وجلَّ – لعباده المؤمنين في جنة الخلد ، ومن هذا الجمال ( الحَوَرُ ) في العين ، لا الزُّرْقةِ ، ولا الخُضْرَةِ .

ومن بديع لفظ بشار بن برد ذِكْرُهُ ( المدامع ) بصيغة الجمع ، وذِكْرُ مواطن الدمع من العين ، وهي أطراف العين التي تسيلُ منها الدموع ، الموق ما وَلِيَ الأنفَ ، واللحاظ ما وَلِيَ الصُّدْغَ ، فلذلك نسمع كثيرا من العوام يقولون : ( جاء فلان ودموعُهُ أربعُ ) أي أن الدموع تسيل من الموق واللحاظ ، ولكل عين موق ولحاظ ، فيكون أربعة مواطن لسَيلان الدمع !

فهو يضعُكَ أمام صورة غاية ٌ في الحسن والبهاء والجمال ، صورةُ امرأة واسعة العينين ، كَحَلاءُ ، فاترةُ الطَّرْف ، تسكبُ دموعا من مَآقيها وألحاظها !!

وفيه أن عينيها يسيطرُ عليها الكَحَلُ حتى في المواطنِ التي قد يُتَوَهَّمُ فيها قِلَّةُ ظهور هذه الصفة ، لأن مواطن الدمع في العادة تتغيَّرُ الى الحمرة بسبب الدمع وحُرْقَتِه ، فهذا هو وصفُ الأكمهِ بشار الذي ما أبصر شيئا في حياته !

وقد غلب بيتُ جرير - في وصف العين العربية - كُلَّ بيت :

إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ
..... قَتَلْنَنَا ، ثُمَّ لمْ يُحْيِيْنَ قَتْلانا

يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حراكَ به
..... وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أركانا .

وهذا الصحابي كعبُ بن زهير يقولُ رائِعتَهُ :

وما سُعادُ غداةَ البينِ إذ رَحَلوا
..... إلَّا أَغَنُّ غَضِيْضُ الطَّرْفِ مكحولُ

فقد جمع كعبُ بن زهير جمال الصوت ( أَغَنُّ ) من الغُنَّة وهو مدحُ في صوت المرأة ، وجمالَ العين ( مكحولُ ) ، وقد شابَهَهُ بشارٌ في ذلك .

قال السيوطي في أمر الصوت عندما وصل إلى بيت كعب بن زهير في كتابه ( كُنْهُ المُراد في بيان بانت سعاد ) ( 143 ) :

( أنَّ ابا تمام سمع جاريةً تُغَنِّي بالفارسية ؛ فشجاه صوتُها ، ولم يفهمْ كلامَها ؛ فأنشدَ ، وهو يقول :

فَلَمْ أفْهَمْ مَعَانيها ، ولكنْ
..... شَجَتْ قلبي ، فَلَمْ أَحْمِلْ شَجَاها

فَكُنْتُ كَأَنَّني أَعْمى فَغَنَّى
...... بِحُبِّ الغانياتِ ، ولم أَرَاها .

قال أبو هلال العسكري في كتابه  الأوائل  : وأَمْرُ الصوتِ عَجَبٌ ؛ منه ما يقتلُ كصوت الصاعقةِ ، ومنه ما يَسُرُّ ويُبْهِجُ حتَّى يُرْقِصَ و يُقْلِقُ ، ومنه ما يُبْكي ، ومنه ما يُزِيْلُ العقلَ ويورثُ الغَشَا ، وبه يُنَوِّمون الصبيانَ ، وبه تُسْتَخْرَجُ الحيَّةُ من جُحْرِها ، وأهلُ الصناعات إذا خافوا المَلالَ تَرَنَّموا ، وتُسْقَى الدَّوابُ بالصفير ، وتصغي بآذانها إذا غَنَّى لها المكاري ، وتزيدُ الابلُ في مشيها إذا حدا بها الحادي ... ) .

وهذا هو فعلُ الصوتِ ، فإنْ كان صوتُ حسناء ، بها غُنَّةٌ وشيءٌ من اللحنِ فهو خمرُ الأصوات الذي يُذْهِبُ الألبابَ ، وصدق جريرٌ عندما قال في حَقِّ أمِّ عمروٍ :

يا أُمَّ عمروٍ جزاكِ اللهُ مَغْفِرَةً
..... رُدِّيْ عليَّ فؤادي كالذي كانا

أَلَسْتِ أَمْلَحَ من يَمْشي على قَدَمٍ
..... يا أَمْلَحَ النَّاسِ ، كُلِّ الناسِ إنسانا .

وقد شبَّه بشارٌ صوت الفتاة المعَدِّيَّة العربية بِقِطَعِ ( الجُمان ) ، والجمان مفرده جمانة وهي هَنَواتٌ تُصاغُ من الفضة تتزين بها المرأةُ ، وبعضهم قال : هي اللؤلؤة !

وكما اعترضَ بشار بن برد على بيت كُثيِّرعزِّة في ذكْر العصا ، حان اعتراضُ الترباني الجذامي على وصف بشار لكلام الفتاة بقطع ( الجمان ) ، فهذا تشبيهٌ باردٌ لا حرارةَ فيه ، فأيُّ جمال في وصف حديثِ الفتاة بالجمان ؟! إنما الجمالُ في قول ذي الرُّمَّة :

ولمَّا تلاقينا جَرَتْ من عيونِنَا
..... دموعٌ كَفَفْنا ماءَها بالأَصابعِ

وَنِلْنا سِقَاطَاً من حديثٍ كَأَنَّهُ
..... جَنَى النَّحْلِ ممزوجاً بماءِ الوَقَائِعِ .

فهذا هو الوصف الذي يليق ، ويَطْرَبُ له الفؤادُ ، وقد قال جِرَانُ العَوْدِ :

حَدِيْثٌ لو أنَّ اللحمَ يَصْلى بِحَرِّهِ
..... غريضاً ؛ أَتى أَصْحابَهُ وهو مُنْضَجُ !

ومنهم من وصف حديثَها بصوت الغيث يسمعه رجلٌ ممْحِلٌ :

وَحَديثُها كالغيثِ يسمَعُهُ
..... راعي سنينَ تتابعتْ جدبا

فأَصَاخَ مُسْتَمِعاً لِدِرَّتِهِ
..... ويقولُ – من فَرَحٍ – هيَا رَبَّا !

وقال جرير :

إذا هُنَّ ساقَطْنَ الحديثَ كَأَنَّهُ
..... جَنَى النَّحْلِ أو أبكارُ كَرْمٍ يُقَطَّفُ .

ويكثرُ لفظُ ( سِقاط و مُسَاقطة ) عند وصف حديث المحبوبة ، وهو أن يكون الكلامُ نُوَبَاً يتكلم العاشقُ ثم يسكتُ ثم تتكلمُ المحبوبةُ وهكذا ، كُلٌّ له نصيبُه في الحديث ، هذا معنا ( ساقطْنَ ) الوارد في بيت جرير وغيره .

إلا أنني وجدتُ من شاركَ بشاراً هذه البرودةَ وهو الأخطلُ النصراني :

وقد تكونُ بها سلمى تُحَدِّثُني
..... تساقُطَ الحَلْي حاجاتي وأسراري .

شبَّه كلامَها بعقدٍ انقطعَ فتساقط لؤلؤه ، وإنْ كان بيت الأخطل فيه إحداثُ صوت ؛ لتساقط حبات العقد فيصدرُ صوتٌ جَرَّاءَ ذلك ، أما بيت بشار فقد خلا من الصوت واعتمد فقط على البريق واللمعان .

ثم ينتقل بشار إلى وصف جسم المحبوبة العربية ، فقد بدأ بالعظام وجعلها كَأَنَّها الخيزران ليناً وتثنِّياً ، فنقول : إنْ كان عظامُها بهذه الليونة والطَّراوة ، فكيف بلحمها وشحمها فهو الزبْدُ والمُخُّ إذن .

والتَّثَنِّيْ في المرأة من صفات جمالها ، ومن أروع ما سمعتُ في ذلكَ قولَ تميم بن أبيِّ بن مقبل :

يَمْشِيْنَ هيلَ النَّقا مالتْ جوانبُهُ
..... يَنْهالُ حيناً ، ويَنْهاه الثَّرى حينا

يَهْزُزْنَ للمشي أوصالاً مُنَعَّمَةً
..... هَزَّ الجنوبِ ضُحىً عِيْدانَ يَبْرينا

أو كَاهْتِزازِ رُدَيْنِيٍّ تَداوَلَهُ
..... أيْدي التِّجَارِ ؛ فزادوا مَتْنَهُ لِيْنا !

فيا سحرَ العربِ ما أروعَك ، وأصفاك !

وقال مسلم بن الوليد في ذلك وإن كان دون قول تميم :

مريضاتُ أَوْباتِ التَّهادي كَأَنَّما
..... تَخافُ على أَحْشائها أنْ تَقَطَّعا .

وقال الآخرُ في تَهاديها في مشيتها :

تهادى في الثياب كما تهادى
..... حَبَابُ الماءِ يَتَّبِعُ الحَبَابا !

قال العلامة محمود شاكر – رحمه الله – معلِّقا على هذا البيت :

( وتهادتْ المرأةُ في مشيتها : تمايلتْ قليلاً في سكون وخيلاء ، والتَّهادي أحلى مشيِهِنَّ ، ولكن نساء زماننا يردْنَ أنْ يمشين مشياً مذكرا ... ) .

وكلمة ( سُبْحة ) في بيت بشار يُراد منها ( صلاة النافلة ) وهذا مما يَدُلُّ على بُطلان هذه الخرزات الطارئة على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري ، ولي مقالة منشورة في ابطال الخرزات لغة وشرعا معنونة ( بطلان السبحة لغة وشرعا ) .
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد