وَفاءُ شاعرٍ

mainThumb

18-09-2014 09:52 AM

حادِثَةٌ بكى من وقعها الدَّهرُ ، وتناقلها الطَّيرُ ، وشاهد أهلَها البحرُ ! قال عنها المؤرخُ الصفديُّ :

( وواقعةُ المعتمد بن عبَّاد صدعتْ الأكبادَ ، ودكَّتْ لها من القلوب أطوادُ، فإنَّه لم يجرِ على مَلِكٍ ما جرى عليه ولا ذويه ، ولا أُصيبَ أحدٌ بمصيبتِهِ في مُلْكِهِ ومالِهِ ونفسِهِ وبنيهِ ، وما رعتِ الأيامُ له حقوقَهُ ، ولا أَرَتِ الليالي بعد غروبه شروقَهُ ، ولا عَدَتْ أنْ عُدَّتْ بنوه الأملاكَ في السُّوْقَةِ ... ) .

والمُعْتَمِد بن عبَّاد يعود الى بني عبَّاد بطنُ من ( لخم ) ، وجذورُهم من مدينة ( العريش ) في صحراء سيناء ، وهو آخرُ ملوك مدينة ( اشبيلية ) من هذه الأسرة اللخمية .

كان مهتمَّاً بالشعر والشعراء ، وظهر في زمنه ابنُ زيدون ، وابنُ عمَّار ، وابنُ اللبانة ، وكان أبو بكر ابن اللبانة من أخلص الناس اليه وأصفاهم ، وقف معه في محنته ، وداوم على زيارتِه في سجنه الذي أناختْ أيامُهُ ولياليه فيه ، وقال في من الأشعارِ ما يبكي الأصمَّ ، ويرقرق الدَّمْعَ ، وألَّف فيه وفي محنته وأشعارِه تأليفاً أسماه : ( نظم السلوك ، في وعظ الملوك ) ، أمضى ابنُ عبَّاد بقيَّة أيامه في سجن ( أغمات ) بالمغرب ، فلمَّا حانَ أَجَلُهُ قيل :

( أُخْرِجَ من سجن أغمات ؛ ونودِيَ عليه : الصلاةُ على الغريب ) !

فقال فيه صديقُهُ الوفيُّ ابنُ اللبانة :

لِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياءِ مِيْقاتُ
..... وَلِلْمُنى مِنْ مناياهُنَّ غاياتُ

انْفُضْ يَدَيْكَ مِنَ الدُّنيا ، وساكِنِها
..... فالأرضُ قَدْ أقْفَرَتْ ، والنَّاسُ قدْ ماتوا

وَقُلْ لِعَالَمِها العُلْوِيِّ قَدْ كَتَمَتْ
...... سَرِيْرَةَ العَالَمِ السُّفْلِيِّ أَغْماتُ .

فجاءتْ هذه الأبيات برائحةِ شواءِ الكَبِدِ من ابنِ اللبانةِ ، فهو الوَفِيُّ للمعتمد بن عبَّاد زمن مُلْكِهِ ، وزمنَ ذُلِّهِ في سجن أغمات ، وهذا قَلَّ ما تجده في شاعرٍ ؛ لأن الشاعر في غالب أمرِهِ وراء حاجاتِهِ ورغباتِهِ ، ولكنَّ ابنَ اللبانة كسرَ قيدَ الغالبِ والشائعِ عن الشعراء !

ومما قاله – أيضا – في المعتمدِ :

يا ضيفُ أَقْفَرَ بيتُ المكرُماتِ ؛ فَخُذْ
..... في ضَمِّ رَحْلِكَ ، واجْمَعْ فَضْلَةَ الزَّادِ

ويا مُؤَمِّلَ واديهم لِيَسْكُنَهُ
..... خَفَّ القَطِيْنُ ، وَجَفَّ الزَّرْعُ والوادي .

إنْ يُخْلَعُوا ، فبنو العبَّاسِ قد خُلِعُوا
..... وقدْ خَلَتْ قبلَ حِمْصٍ أَرْضُ بَغْداد ِ

وحمصُ المذكورة ليستْ حمصَ الشَّامِ  ، بل حمصَ الأندلس ؛ وهي مدينة ( اشبيلية ) ، آخرُ مواطن بني عبَّاد اللخميين .

فالدُّنيا عِبَرْ ، والمُلْكُ في النَّاسِ مُحاقٌ وقَمَرْ ، فاتَّعِظْ ، وَكُنْ على التَّوْحيد والسُّنَنْ .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد