خيالُ سلمى ومَسْراه !

mainThumb

11-09-2014 09:44 AM

الطيفُ في الشعر العربي ضارب جذوره ، وناصب خيامه ، فلا تكادُ تخلو منه قصيدةٌ عزلية في الجاهلية أو الاسلام !!

والطيف هو خيال المحبوبة الزائرُ اذا أرخى الليلُ سُدُولَه ، وقلَّتْ الرجلُ في السكك ، ومال كلُّ ذي بيتٍ الى بيته ، هنا تضطربُ الذكرى في خلد المُحِبِّ والعاشق ، فيجتَرُّها بتفاصيلها ووقائعها ؛ عَلَّها تخفِّفُ من لهيبِ الجوى ، وحُرْقَةِ الحشا .

ومن الملحوظ أن الطيف – غالبا - يكون للأنثى ( المحبوبة ) ، فهو الطارق من بعيد ؛ كي يزور المحبوب ، ويخبره عن الوفاء وتثبيت العهود ، فلا حرسَ يمنعُه  ، ولا وعورة الارض تُنْصِبُه ... حتى الوشاة لا يخشاهم ولا يحسبُ حسابهم ، إلا أنه إذا أقبل الصبحُ لملم أطرافَه ، وقرر الرحيلَ ، فهو زائرٌ ليلي ، يسري مع النسيم ويهتدي للعاشق  من غير هادٍ أو دليل !

فهذا حسَّان – رضي الله عنه – يذكر الطَّيْفَ في قصيدته الرائعة ، فيقول :

فَدَعْ هذا ولكنْ مَنْ لِطَيْفٍ
..... يُؤرِّقُني إذا ذهبَ العِشَاءُ .

قال البغدادي في ( خزانته ) ( 9 / 234 ) :

( الطيف : الخيال ، يؤرِّقني : يُسْهِرُني ، فإنْ قيل : كيف يُسْهِرُهُ الطيفُ ، والطَّيْفُ حُلُمٌ في المنام ؟! فالجواب : أنَّ الذي يؤرِّقُه لوعةٌ يجدها عند زوالِهِ ، كما قال الطائي :

ظَبْيٌ تَقَنَّصْتُهُ لمَّا نَصَبْتُ له
..... مِنْ آخرِ الليلِ أَشْراكاً مِنَ الحُلُمِ
ثُمَّ انْثنى ، وبنا من ذِكْرِهِ سَقَمٌ
...... باقٍ ، وإنْ كانَ معسولاً من السَّقَمِ ) .

فاللوعةُ التي تُعْقِبُ زوال الطيف هي التي تركتْ اللوعة والحُرْقَةَ في قلب حسان بن ثابت .

وهذا الطيفُ زائرٌ ليليٌّ يهتدي لصاحبِهِ رغم المساحات الشاسعة والبِيْدِ المُهْلِكَةِ ، وقال أحدُهم :

ومليحٍ كالبدرِ زارَ بليلٍ
..... فَجَلا حُسْنُهُ الدُّجى إِذْ تَجَلَّى
ما درى منزلي ، ولكنَّ قلبي
..... بِلَهيبِ الجوى هَدَاه وَوَلَّى
وعَجيبٌ منه فقيهٌ ذَكِيٌّ
..... بِمَحَلِّ النِّزَاعِ كيف اسْتَدَلَّا ؟!

فهذا هو الطيف الخِرِّيْت في الاستدلال لمحلِّ صاحبِه وَمُضْناه .

ومن روائع ما قيل في الطيف أبياتٌ لِتِحِيَّةَ بن جُنَادة العذري :

سَرَتْ لِعَيْنَيْكَ سَلْمى بَعْدَ مَغْفَاها
...... فَبِتَّ مُسْتَوْهِناً مِنْ بَعْدِ مَسْرَاها
فقلتُ : أَهلاً ، وسهلاً ، مَنْ هَداكِ لنا
..... إنْ كُنْتِ تِمْثالَها أو كُنْتِ إيَّاها ؟!

فهو يصف سُرى طيف محبوبته سلمى من مكان بعيد ، فلذلك استغرب ابنُ جُنادة استهداء طيفها له ولمكانه !

ولكنَّه عالمُ الأرواح العجيب الذي يقفُ العقلُ حائراً أمامَهُ لا يُحيرُ جواباً !

فطيفُ ( سلمى ) أتاه طارقاً لعينيه بعد اغفاءتها ، ثم تركه مُسْتوهِنا ضعيفاً من الوَهنِ ، قال تعالى : ( قال ربِّ إنِّيْ وَهَنَ العظمُ منِّيْ واشتعلَ الرأسُ شيباً ) ، وقال تعالى : ( إنَّ أوهنَ البيوتِ لَبيتُ العنكبوت ) ، وقال عزَّوجل ايضا : ( حملتْهُ أمُّهُ وهناً على وَهَنٍ ) .

فالليل بعدما كان للراحة ، أصبحَ هادَّا لِقواه بسبب تلك الزيارة التي قام بها خيالُ سلمى !

فهو يرحِّبُ بالخيال بقوله : ( أهلاً وسهلا ) ، فالعربُ أهلُ قِرَى حتى للخيالات والطُّيوفِ ، فكيف اذا كان خيالُ من سَكَنَتْ الفؤادَ وضربتْ أوْتادَها ؟!

وبعد الترحيبِ يسألُها : ( مَنْ هداكِ لنا ) ؟! المسافةُ بعيدة والحواجزُ كثيفةٌ والطُّرُقُ مَرْصودةٌ بالرُّقباء والوشاةِ ، الا أنَّ طيفَ سلمى جاء وحضر، يقودُه الهوى ويدُلُّه باعِثُ الشَّوْقِ ولهيبُهُ .

ومن شِدَّة حيرة ابن جنادة شَكَّ هل هذا الزائرُ المُتَسَلْسِلُ هو طيفُ سلمى أم سلمى بذاتها لحماً ودماً ؟! وما ذاك الا لاحساسه بكل مكوِّنات سلمى الجسدية والروحية حتى جعله هذا الخيال يسألَ هذا السؤال الذي خالطه الشَّكُ والحيرةُ .

فتمثالُ الشيء صورتُهُ لا حقيقتَهُ ، فهذا عِشْقُ العرب ، عِشْقٌ أطهرُ من ماء السماء وأذكى من طَلٍّ ضرب الخُزامى ؛ ففاحَ به الهواء .
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد