لا يعبر المجتمع الإنساني في أفضل معانيه العامة المتفاهمة حول قيم بشرية مشتركة عن وحدة رؤية حول مصير الكون وحول مستقبل الإنسان على هذا الكون.فقد غلّب الإنسان آفاق الطموح اللامتناهية في التملك وفي السيطرة غير المحدودة على قوى الطبيعة وثرواتها ومكامن عناصرها من جهة, وعلى القوى البشرية التي تتشكل منها على مر الزمن المجتمعات المتمركزة في مناطق جغرافية متعددة.وقد ارتبطت أحلام السيطرة والتفرد بالسلطة المهيمنة بتوفير عناصر القوة وأدواتها ووسائلها العلمية والتقنية التي جهدت القوى المتنورة في بعض المجتمعات في تأمين احتياجاتها من القوى البشرية المؤهلة وتبني العقول المبدعة واحتضان الفكر التجديدي والاستجابة للآراء التحديثية في القكرالمتمتع بالحرية المطلقة وفي التقاليد وفي التراث وفي القيم وفي المعتقدات السائدة.
كما تجلت منجزات التحديث بانسحابها على الخلفيات الفكرية العملية والنظرية على طرق العمل والإنجاز وعلى الوسائل والأدوات المستخدمة في إنجاز العمل وتطويع الابتكارات التقنية والاختراعات العلمية لخدمة هذه الغايات.ولم يُستثنى بناء الهياكل المؤسسية ولا سياسات التنسيق فيما بينها المتجاوب مع المصلحة العامة من استمرارالتطوير والاستجابة لضرورات التغيير التي تشمل الإلغاء والاستحداث دون تردد لما يجب إلغاءه أو استحداثه من الفكر ومن الوسائل,ومن المبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية السائدة. أي نفضت تلك المجتمعات الجمود بكل أشكاله,وألغت كل الأبواب أو النوافذ المغلقة في وطنها أمام أسس التقدم وحفزت العقول على الانفتاح دون قيود على ما من شأنه الإضافة النوعية لما يسود في المجتمع من تقاليد في العمل والعلاقات وشجعت الدراسات والبحوث المستمرة في كل ميدان دون استثناء,ودون أن تتعرض للحريات الفردية بأي تقييد أو تنبيه أو ردع.
استطاعت كما نشاهد اليوم بعض الدول التحكم في مصير غيرها من الأمم,وتحديد مسار تطورها بعد أن تمكنت من إعداد نفسها,وتهيئة كوادرها واستثمار ثرواتها البشرية والطبيعية في التفوق التي جعل منها قوى مصنفة بالقوة الأولى والثانية والثالة وهكذا(وقد مارست ضد الأمم الأخرى أبشع أنواع الجرائم الاستعمارية والامبريالية والاستغلالية تحقيقا لمصالحها الذاتية,وليس على الإطلاق لمصلحة الدول الضعيفة والمُستعمرة)...وهي تفرض إرادتها في الشأن العالمي بقوة المال أوالسلاح أو كليهما حسب الحاجة.
ومن الملاحظ, أن هذه القوى التي تمثلها أميركا والغرب بشكل مباشر,ينطلقون من فكرة إنهم إنما يعطون المثل لما يجب أن تكون عليه المجتمعات بترسيخ القيم التعددية وقيم الحرية وقيم الديمقراطية,ولا يفرضون على أحد آخر أن يكون مثلهم.أي إنهم يقرون بالمبادئ الليبرالية بأشكالها العديدة وأنواعها المختلفة,ولا تضع قالبا تريد من الآخرين صياغة مجتمعاتهم بالقولبة,مما يتيح في هذه المنطلقات مساحة من الحرية وإت كلنت في بعض المستعمرات وهمية,إلا أنها تظل بمنأى عن كونها ذات طبيعة مركزية مقيدة.
الدول الاستعمارية إذن دول تخدم مصالحها (الوطنية) الأناينة المستغلة بدوافع خاصة بأهدافها العدوانية وبمستقبل مجتمعاتها ورفاه مواطنيها,بعد أن مكنت وطنها وأعدت قواه,ورسخت أهدافه على فعل ذلك,أي انطلقت من الحالة الوطنية إلى كونها قوة كونية,ولم تتجاوز مفهوم الوطنية كما تراها.وتنطلق هذه الدول من منطلق تعظيم مركزها الوطني وما يحقق لها مصالحها الوطنية وتمكنت من خدمة قضاياها الوطنية في طرحها لسياسات العولمة والتقارب بين الأمم,وكانت مهد الفكر الذي يطرح قضية المواطنة العالمية.!!
الفكر الأممي من الناحية المقابلة الذي أراد أن يدمج مجتمعه بقضايا ذات طبيعة أممية بمشتركات محددة مقتصرة على العقائد الاقتصادية أو الدينية,ويرمي إلى إلغاء فكرة الوطنية باعتبارها عائقا أمام توجهها بطبيعته الأممية وتهميش قيمها (أي قيم الوطنية),وتسخير ثرواتها وخيراتها للاندماج في مجال أرحب من عالم متسع تحكمه عقائد شمولية, ترى في التعددية دعوة تقسيمية,وفي الحرية الشخصية خروج على الأخلاق العامة, وفي الديمقراطية تجرؤ على قادة الأمة,عانى هذا الفكر من ضبابية الرؤية لمستقبل الوطن,وتجاوزت حدود الجغرافيا دون أن تكون قد أوجدت لنفسها قاعدة أساسية صلبة ترتكز على مناهج معاصرة في السلوك وفي التعامل تمكنها من الانطلاق الآمن لتعزيز قوتها وصون وحدة أهدافها المشتركة.
المعضلة الأساسية في مثل هذا الفكر الأممي الطابع,أنه,إذا تمكن مريدوه من تحقيقه, يتوسع بمساحة أكبر من قدرته على السيطرة على تلك السعة الجغرافية,أمنيا واستقرارا اجتماعيا,وتشقى دون جدوى في الوصول إلى توافق بين إثنياتها وطوائفها,وتثير المشاعر العنصرية بالتعصب لمبادئها, ويتحول المجتمع إلى كتلة بليدة في تجاوبها مع متطلبات العصر,ولا تجد تلك القوى في النهاية أمامها من وسيلة للحكم والسيطرة إلا القوة والقمع والقسوة في التعامل مع المعارضة (إن سُمح لها بالتشكيل) والمعترضين وغير الموافقين وغير الراضين عن أوضاعهم ومصائرهم ومع الرأي الاخر.أي يقع النظام تحت حكم دكتاتورية شديدة القسوة,تجاوزها الزمن وانفلت من عقالها عامة الناس.