ذِكْرُ الراهب في قصائد العرب

mainThumb

11-12-2013 07:36 PM

لقد جاء ذِكْرُ رُهبان النصارى في أشعار العرب ، وَذِكْرُهم يأتي في الغالب لأمرين :

الأول : في ذكر رسم الدار التي كانت موطنَ المحبوب ، فهم يُشَبِّهون بقايا الدار من رمادٍ ونُؤي بكتابة راهب على قرطاس .

الثاني : في ذكر مدى جمال المحبوبة وأنها الغاية في جمال الصورة والمنطق .

وكلامنا على الثاني ، فقد وصفَ الشاعر العاشق محبوبتَه بالجمال الفائق والبدر الطالع ... ووصف حديثَها بالشهد في شمعِه واللؤلؤ في سِلْكِهِ !


حتى أن هذا الجمال وهذا المنطق لو شاهده من عزف عن الدنيا وزهد في متاعها وسكن أعالي الجبال من أؤلئك القوم ( الرهبان ) لفتنه جمالُها وصبا بعد شيبه ووقاره !

وقد كَثُرَ ذلك في أشعارِهم حتى أصبحَ منهجا يسلُكُه الشعراء في قصائدهم ، وأصبحَ الآخرُ تابعَ الأوَّل لا يحيد عنه ، كأنَّ بينهم مواثيقَ تعاهدوا عليها !


وقد راق لي في هذا الباب أبياتٌ ذكرها البغدادي في ( خزانته ) لشاعر مخضرم عاش الجاهلية والاسلام وهو ربيعة بن مقروم الضَّبِّيِّ ، قال يصفُ فتاةً عربيَّةً ، جمالُها الغاية ، ومنطِقُها النُّوْبُ والحلواء :



1- شماء ُواضحةُ العوارضِ طَفْلَةٌ .... كالبدرِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ المُنْجَلِي
 


2- وكأنَّ فاها بعد ما طَرَقَ الكَرَى .... كأسٌ تُصَفَّقُ بالرَّحِيْقِ السَّلْسَلِ
 


3 - لو أنَّها عَرَضَتْ لأِشْمَطَ راهبٍ .... في رأسِ مُشْرِفَةِ الذُّرَى مُتَبَتِّلِ



4 - لَصَباَ لِبَهْجَتِها وطيبِ حديثِها .... وَلَهَمَّ مِنْ ناموسِهِ بِتَنَزُّلِ .



فالشاعر يذكر جمالَ أنف المحبوبةِ وأن به شَمَاً وهو ارتفاعه مع طول قصبة الأنف وهو من صفات الجمال في الأنف ، والشممُ من مُمَيِّزات العرب ، فقالوا : ( شُمُّ الأنوفِ ) .



ووصفَ عوارِضها بالوضوح ، والعوارض هنا إما أسنانها التي تبدو عند لضحك ، فهي خالية من لون الصُّفْرة ، بل هي شديدة البياض واضحة ، أو العوارض هي صفحة الخد ، فخَدُّها ناصح لا كُدْرَةَ فيه .

ثمَّ شبَّهها بالبدر المنجلي عن السُّحُبِ والطالع من بينها ، والبدر اذا كان طالعا من بين السحائب يكون أكثر وضوحا وصفاءً ؛ فلذلك كان شاعرُنا دقيقا في اختيار البدر في هذه الحالة .

ثمَّ جاء على وصفِ ريقها ، فجعله مثلَ الرحيق السَّلْسَلِ ، وهذا الرحيقُ السَّلْسَلُ حال ريقُها وقت استيقاظها من نومها ، وغالب الناس في هذا الوقت تتغير رائحة الفم عندهم ، فريقُها بهذا الرحيق في هذا الوقت الحرج فما بالُك في غير هذا الوقت المُغَيِّرِ لأفواه الناس ؟!

كلُّ هذه الأوصافُ لو رآها راهبٌ متقَشِّفٌ معتزِلٌ في صومعتِه في رأس مُشْرِفَةٍ ، لَصَبَا اليها ونزل من ناموسه .

وسَأُسَلِّطُ الضوءَ على البيتين اللذين فيهما ذِكْرُ الراهب .

قال الشاعر : ( عرضَتْ ) أي استقبلَتْكَ من غير قصد منكَ ، انما هي النظرة الخاطفة رغم ذلك أصابَتْهُ بسهم جمالها وحلاوة منطِقِها ، فكيف لو أمعَنَ النظرَ وأتبعَ النظْرَةَ أُخْتَها ؟!



وقال الشاعر : ( لأَشْمِطَ راهبٍ ) ، والشَّمَطُ هو مخالطَةُ الشيب لسواد الشعر من الرأس وغيره ، قالت العربُ : ( عجوزٌ شمْطاء ) أي خالط سوادَ شعرِها البياضُ من الشيب ، والانسان في هذا العمرُ يعزِفُ عن مَلَذَّات الحياة ؛ لأن الشيب وَظُهُوْرَهُ علامةُ الوقارِ وعلامة تَرْكِ الصِّبَا وملاعبِهِ .



وجمعَ لهذه الصفةِ اللاإرادية ( الشيب ) صِفَةٌ إرادية تكون من اختيار الانسان وهي ( الرهبنةُ ) ، فاجتمع الأمران ، وهما من أقوى الأشياء لِمَنْعِ المَرْءِ من سلوكِ دروبِ اللهو وما يُعَاْبُ من أجْلِهِ .



قال الشاعر : ( في رأسِ مُشْرِفَةِ الذُّرى مُتَبَتِّلِ ) ، وهذا الأشمطُ الراهب قد اعتزل الناس وتركَ دُنياهم ، وسكن صومَعَةً في رأس مُشْرِفَةِ وهي ( الجبل ) وما ارتفع من الارض ، فهو ( مُتَبَتِّلٌ ) أي تاركٌ للدنيا وملَذَّاتِها .



فهذا الراهب اجتمعتْ فيه الصفاتُ الخَلْقِيَّةُ كالشيب ، والارادة الاختيارية ( الرهبنةُ ) و ( التَّبَتُّلُ ) ونَأيُ المكانِ وبُعْدُه عن الناس ، إلا أنَّ هذه الأشياء التي اجتمعَتْ في هذا الراهب لَمْ تَكُنْ وِجَاءً لَه أمامَ جمال صورة المحبوبة ، وروعة منطقها !



فقد صَبَا لبهجَتِها ، وطيب حديثِها ، فكانت هذه المحبوبة تجمعُ أعظمَ أسلِحةِ الفتنةِ من جمال الصورة ، وروعة الحديث ، وهذا قَلَّما يَجْتَمِعُ لفتاةِ ، فقد تجدُ من حازتْ جمالَ الصورة ، وفقدتْ طيبَ الحديث ، أو ظفِرَتْ بطيب الحديث ولم تُرْزَقْ جمالَ الصورة .



فسلامٌ على العربيةِ أينما حَلَّتْ ، وأينما ارتَحَلَتْ !



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد