رسالة إلى أخي الوزير

mainThumb

19-09-2013 12:52 PM

عُرف عن النظام الأردني كثرة تغيير الحكومات وقِصر عمرها، فبعضها لم يكمل الأسبوع كحكومة هزاع المجالي الأولى في العام 1955 وأطولها لم يتجاوز عمر الدرجة الجامعية الأولى (على رأي دولة علي أبو الراغب) الذي حُلّت حكومته قبل أن تتخرج من الجامعة.

وقد يكون مردّ هذه الظاهرة إلى طبيعة النظام الملكي الدستوري الذي يُعهد فيه إلى الملك بسلطات واسعة تجعل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية تدور في فلك السياسة العامة التي ينتهجها رأس الدولة. 

إن عرش المملكة الأدنية الهاشمية وراثي محصور في أسرة الملك عبد الله بن الحسين، كما هو محدد في المادة (28) من الدستور الأردني، وهو مستمر لم ينقطع منذ تأسيس إمارة شرق الإردن في العام 1921 ولهذا فإن سياسة المملكة ثابته تقريباً وتحالفاتها مُرتبطة صراحة بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، مما وفرّ نوعاً من الاستقرار السياسي والإجتماعي في مُحيط مضطرب.

لقد إستطاع النظام الملكي الهاشمي توفير نوع من العدالة الاجتماعية بصفته ولياً على الشعب، وإستطاع أن يشكل لوحة فسيفسائة أردنية من مكونات متعددة، متجاوزاً العديد من المحطات الصعبة، مما أكسبه إحتراماً وقبولاً من الشعب، على الرغم من تعرض هذه العلاقة إلى المطبّات التي قد يكون مردّها إلى فساد قد طال أنسباء العائلة الحاكمة، أو تباطوء في الإصلاح، أو حتى ثراء يفوق خيال الأردنيين.

هذا كله، زاد من وضوح هيكلية السلطة  Hierarchy of Power في المملكة، فأصبحت العائلة المالكة تعتمد على حِصن منيع من الإستخبارات ينظم العلاقة بين القصر وباقي المجتمع من خلال منطقة مراوحة Maneuvering Space في ظل الدستور الذي ما زال، وعلى الرغم من تعديلات العام 2011، بعيداً عن الملكية الدستورية المتبعة في كل من بريطانيا أو اسبانيا.

ويلاحظ مما سبق، بان جميع الحكومات التي تداولت رئاسة الوزراء هي على نفس النمط تقريباً، وإن تطلب الأمر أحياناً إشراك بعض الحزبيين من اليمين أو اليسار أو الوسط في بعض الحكومات بنِسب لا تتجاوز في حدها الأعلى 10% وفي وزارات غير سيادية في أغلب الأحيان.

أما وقد تأثر الأردن بالربيع العربي الذي أتى نتيجة للإستفراد بالسلطة من قبل الحُكام العرب، فقد لاحظنا إستعداد المركز الأمني السياسي (المخابرات والقصر) لتقديم بعض التنازلات لإستيعاب الحراك الشعبي عن طريق سياسة الأمن الناعم وتقديم بعض التنازلات التي ما زالت متأرجحة في إنتظار وضوح الصورة والتي يعتمد على نتائجها درجة الإستجابة إلى المطالبات الشعبية، والتي قد تصل إلى الحكومات البرلمانية الحقيقية على غرار ما هو متبع في الديمقراطيات الحقّة.
 
والسؤال الذي يقفز إلى الواجهة، أين هي الحركات السياسية من هذه الحالة التي يضبط إيقاعها المركز الأمني السياسي، فلا الأحزاب الوطنية الموالية جداَ (مثل حزب التيار الوطني/ عبد الهادي المجالي) مقبولة تماماً للنظام، ولا الإسلام السياسي (الأخوان المسلمين) مقبول كشريك إستراتيجي، ولا حتى اليسار المتشرذم قادر على تقديم نماذج جبهوية للمشاركة في الحكم. هذا الحُكم أصبح متشعب الأطراف، تداخل فيه السياسي مع الأمني مع الاقتصادي، بحيث أصبحت بمثابة طبقة إجتماعية يمكن تصنيفها كمالكي وسائل الإنتاج في النظام الرأسمالي، مقابل شغيلة ينتمون الى فئتين وسطى ودنيا. نظام غريب التصنيف يحكم تماسكة جهاز أمني يدين بكامل الولاء للطبقة الحاكمة. 

سنوات طويلة أضاعتها جميع الأطياف السياسية وهي تبحث عن اسلوب للمشاركة في الحكم، ولفرض نفسها على المركز الأمني السياسي، وجميعها باءت بالفشل، لأن النظام قد أدار اللعبة بإقتدار وشتت المعارضة بكل السبل المُمكنة.

وحتى الانتخابات، فقد كانت تهندس مقعدياً وفقاً لرجاحة الكفة بين أقطاب الحكم وأطراف المعارضة، فقد كانت تنازلات المركز الأمني السياسي في أوجها بعد هبة نيسان في العام 1989 فأفرزت برلمان بمعارضة حقيقية، لطالما تراجع عنها النظام بعد تمرير إتفاقية وادي عربة. ثم توالت فذلكات السُلطة حتى تم إستدراج المعارضة إلى فخ مقاطعة الانتخابات البرلمانية، فخلى الميدان لحميدان، ونجح موقوفين في السجن على ذمة التحقيق بتهمة الفساد، وأصبحوا نواب يشرّعون بالنيابة عن الأمة.

الآن، وبعد كل هذه التجارب والشرخ العامودي الذي أصاب المجتمع العربي بإنقسامه بين فسطاطين، الأول عقائدي يسعى إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية، والثاني علماني يؤمن بالتعددية ويرى في الغرب المتحضر نموذجاً يُحتذى، فإن جميع الأطراف قد أعادت تموضعها، فأصبح الملكي شريكاً أقرب إلى العلمانية من الند الذي يسعى لتطبيق الشريعة بحد السيف ولهيب النار.

نعم، إن التطور الطبيعي الذي عرفناه من التسلسل التاريخي للمجتمعات بدءً بالعبودية فالإقطاع فالرأسمالية فالإشتراكية لم يعد قابلاَ للتطبيق في ظل تأخر المجتمعات العربية عن ركب الحضارة العالمية التي أفرزت بدائلها من رحمها، وذلك بسبب إرتباط العرب، كحاضنة للإسلام، بنصوص محددة في القرآن والسنة، تجعل مجرد التفكير بالتحرر نوعاً من الرِدّة التي حاربها أبو بكر الصديق بالرُمح والسيف.

فما العمل إذن، هل ننسحب من الصراع لنراقب غلبة أي من الطرفين على الآخر كما هو حاصل الآن في سورية أو حتى مصر؟

جوابي هو لا كبيرة أرفعها إلى مقام الشعب الأردني الذي ينتظر من مثقفيه جواباً واضحاً في هذه الأوقات العصيبة.

فالمشاركة في الحكم بالمتاح من المقاعد هو المفتاح الذي يمكّن القوى التقدمية من إسماع صوتها لتصنع تغيرات كمية، ولو على قِلتها، لتتحول الى تغيرات نوعية تصبّ في نقل المجتمع الأردني مراتب عدة إلى الأمام. خطوة تمهيدية قد تفضي إلى توفير المناخ لتشكيل حكومة إتقاذ وطني تشارك فيها جميع الأطراف لإنجاز ما إستعصى على جميع من سبقها في مكافحة حقيقية للفساد، وتمكين الكوادر الوطنية النظيفة في مواقع الإدارة العليا بالدولة لتحسين ظروف الناس، وتخفيض المديونية، وتنمية المحافظات.

إن هذا الطرح، لا يعني بأي حال من الأحوال الإنسلاخ عن حلفاء الأمس الذين إصطفوا معاً في النضال من أجل الإصلاح، إنما يعني إفساح المجال لجميع الأطراف لإعادة الحسابات والتفكير بما كان من اجل ما سيكون. فالأخوان المسلمين فصيل سياسي مهم من غير المقبول مجرد التفكير بإقصاءه، ولكن عليه أن يجري مراجعة حقيقية لتطوير فكره بما ينسجم مع المكتشفات العلمية التي هزت مسلمات الماضي، كما أن على الملكيين التفكير جدياً بالتحول إلى النظام الملكي الدستوري الحقيقي الذي أنبئنا به جلالة الملك عبد الله الثاني وباشر بتطبيقه، ولو على نطاق ضيق، بالتخلي عن بعض صلاحياته الدستورية كما حصل في تخويل مجلس النواب الأردني السابع عشر لتسمية رئيس حكومة توافقي.

أما اليسار، فهو غير بعيد عن تلك التحولات، ومطلوب منه إجراء مراجعة عميقة لمفهوم دكتاتورية البلوريتاريا التي لم تعد تصلح في ظل ما نشهده من مكاسب تحققها الطبقة العاملة في الدول الصناعية، فالمعادلة النظرية إختلفت، ولعمري بأن فلاديمير إليتش لينين كان سيعيد النظر في بعض آراءه لو أنه ما زال على قيد الحياة.

لهذا تلقينا الصدمة الأولى بقبولك لمنصب وزير الشئون السياسية والبرلمانية، منصب تنفيذي لطالما إنتقدته، ولربما إستشرفت ببصيرتك ما غفل عنه الآخرين. فالبقاء بعيداً عن مطبخ القرار السياسي لم يعد مُجزياً، وما زال الرهان معقود عليك لتحريك المياه الراكده، فقد لوحظ بأنه قد كان لك أثر في تعديل قانون محكمة أمن الدولة (ولو أنه قد أتى أقل بكثير من المؤمّل) وتعمل حاليا من داخل الحكومة على تحريك ملف المعتقلين السياسيين، وقد فتَحت حِوار مع الأحزاب والقوى السياسية، نرجو أن يختلف عن جوهر اللقاءات التي أجراها من سبقك في هذا المنصب، حراك انتقلت به من الشارع إلى الحكومة لأنك تمثل نبض الشارع.

لست الأول في عائلتي الذي يتوزر، فقد سبقك إليها أخينا الكبير الكابتن محمد الكلالدة، وزيراً للنقل، وأول رئيس لمنطقة العقبة الاقتصادية الخاصة في حكومة المهندس علي أبو الراغب. فرحنا لتولي تكنوقراط من الطراز الأول لمناصب فنية ترك فيها من رائحة أبيه فرحان خليل الكثير من السمعة الطيبة للإحترافيه في الأداء، والتواضع في معاملة الناس، والأخذ بيد الصغير حتى يكبر، والضعيف حتى يقوى، والمظلوم حتى يُنصف. 

كم تمنينا أن تتولى حقيبة تقنية كوزارة الصحة والتي لك في مجالها الباع الطويل من الممارسة والدراسات، وأذكر منها موضوع المؤسسة العلاجية والتأمين الصحي الشامل، ولكن قبولك لوزارة الشئون السياسية والبرلمانيه هو آخر ما كنا نتمنى لك، في ظل دولة عميقة لا ترغب في إحداث إصلاح حقيقي، لا بل على العكس تماما صرنا على أعتاب الأحكام العرفيه، فمجرد نشر فيديو متداول على اليوتيوب، على موقع اليكتروني، يودع الناشر ورئيس التحرير في السجن الذي كثيراً ما زرناك فيه يا خالد. هناك، يقف رفاق لنا في الحراك قد نختلف معهم لتطرفهم بعض الوقت، ولكننا نتفق معهم لصدق نواياهم كل الوقت.

ونعلم أنك تحاول الكثير للإفراج عنهم، ولكن هذا الكثير، قليل ضمن تركيبة أنت الأبعد عنها، فالمركز الأمني السياسي لا يؤمن بالتعددية السياسية، ولا بالحكومة البرلمانية، وهم مستعدين لمحاربة كل خطوة في هذا الإتجاه، وحتى لو أنها تأتي بإرادة ملكية سامية.

ونجتهد لنقول، أن الفعل القادر على التغيير هو وجودك ضمن حكومة إنقاذ وطني، تعمل بجد لتحقيق الرؤية الملكية في الإصلاح، فلتجعل من تعديل قانوني الأحزاب والإنتخابات هو الميزان الذي يثبت للناس بأن وجودك في الوزارة قد أحدث التغيير، الذي هو المفتاح لبوابة التحول الديمقراطي المنشود. 

فأنت لست لك ... أنت مُلك لنا جميعاً، فعُد إلينا كما انت، بروحك الطيبة، والتي إن كنت قد أحرقتها لتنير شمعة في الظلام، فدعنا ننثرُ رمادها في سماء الأردن، لننهض من تحته لبناء الأردن الديمقراطي الحر الذي لطالما حلمنا به يوماً ما. 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد