دوافع الثورات (والربيع) العربي!

mainThumb

23-05-2013 06:20 PM

شهد العالم منذ القدم سلسلة متصلة من التغيرات التي اختلفت في وسائلها وفي أدواتها وكذلك في غاياتها وأهدافها.تغيرات في العلوم ومباحثها ومناهجها أحدث في بعضها ما اصطلح على تسميته ثورة في عالم المعرفة في موضوعها,ثورة في الفيزياء,ثورة في الكيمياء,ثورة في الفلسفة,ثورة في الطب,ثورة في الشعر .... وهكذا في كل مجال من المجالات التي خاض العقل البشري في غمارها  بقصد مدروس ومتعمد أو  بالصدفة السعيدة التي يتلقاها العقل المنشغل بقضايا العلوم والتقنيات أو بالعبقرية الخلاقة والعقول المبدعة والفكر المستنير.

ولم يختلف معنى الثورة في مضمونه الناعم وتفسيره وتحليل نتائجه في أي من المجالات التي وقعت الثورة فيها,علمية طبية أدبية فلسفية فنية....,وهو المعنى الذي يصف تغيير إما جذري,وإما درامي,   وإما وسيلي,وإما مفاهيمي ويكون أبطالها وقادتها وزعماؤها أفرادا أو طواقم متخصصة تخلصت من حمولة الفكرالتقليدي وتبعيته المستكينة طلبا للسلامة الشخصية أو خوفا من عقاب التقاليد والتراث,أو محاباة لأبوية واهية التفسير والمقال .وهذا التغيير يطال الفكر والأداة والأسلوب والقواعد والنظريات أحدها ,أو بعضها ,أو كلها لا فرق.المهم أن معنى الثورة الناعم ارتبط منذ أمد طويل بالتغيير وأوالتبديل والإحلال محل ما هو سابق عليه وما هو سائد من فكر وما هو مستخدم من وسائل وطرائق,مقرونا بطبيعة الحال بقبوله في المجتمع واستعداد المجتمع لتطبيق نتائجه والأخذ بمقولاته واعتماد طروحاته.

الثورة فعل ثوري كلي لا يستقيم مع تقسيم متطلباته وتجزئتها في غالب الأحيان,لأن مثل تلك التجزئة سرعان ما تعتريها موجة من المعارضة المحبطة والمعاندة الجاهلة والتجهيلية ,وليس وصفا رومانسيا,وقد طالت الثورة ردود الفعل الرومانسية وآداب التعبيرعنها والتغني بمزاياها,أي فعل تغيير وتبديل وقلب الموازين التقليدية واستبدالها بموازين عصرها الذي يستجيب بإرادة طوعية لمتطلبات العصرنة والتحضر.

أما الثورة في المضمار السياسي- الاجتماعي,فهي تحمل مضمونا خشنا في وقوعه وفي المراحل الأولى من نتائجه.وهي وإنْ لم تختلف في ما تعنيه من تغييروإحلال وتبديل إلا إنها تحتاج إلى تنظيم جاد  وصارم لمجموعة حزبية أو جماعة أو تياربأيدولوجيا تميزها عن سواها,وبرؤية سياسية ونظريات اقتصادية وهموم اجتماعية تتعارض مع ما هو قائم في مجتمعها وتعمل بكل السبل التي تكسبها شعبية تحتضن طموحات قادتهافي الزعامة وفي قيادة الحراك الثوري. وتعتمد هذه القوى المسيسة بالضرورة في أدبياتها على سياسات بديلة بعلاقات دولية مختلفة الروابط والمصالح,تلخصت على مدى نصف ما يقرب من ثمانية عقود بين قوى التحرر والاشتراكية وبين قوى الاستعمارو الرأسمالية التي تزعم   الأولى منهما الاتحاد السوفياتي السابق ,وثانيهما الولايات المتحدة الأميركية الحالية,وعلى برامج اقتصادية تختلف تمام الاختلاف عن البرامج السائدة وسياساتها وخلفيتاه النظرية ,وتطيح الثورات السياسية – الاجتماعية باستخدام القوى الشعبية المتمردة أو قوة الجيش وقدرته على الانقلاب على  السلطة القائمة,أو استخدام العنف(وهذه حالات نادرة) بأسس النظام السابق ويحل,بعد النجاح, زعماؤها وقادتها وساستها محل ساسة وقادة وزعماء النظام (البائد).هذا بإيجازما شهدته حقب تاريخية في    مختلف أقطار العالم .

الدروس المستقاة تقع في أهمها في حقلين؛في الحقل الأول منهكا إن الأمم التي مارست الديمقراطية وتبنت قيمها ورسخت مفاهيمها التعددية وضمنت الحريات الفردية,وأسست للتوافق بين مختلف  مكونات المجتمع,والفصل بين السلطات والإقرار بكافة حقوق كل منها كمواطنين على درجة متساوية أمام القانون, والإخلاص لمبدأ تداول السلطة ونبذ الأطماع الشخصية والاستحواذ وتهميش القوى الأخرى أو بعضها ملكت هذه الأمم نعمتي الأمن الداخلي والاستقرار الاجتماعي,وأخذت بأسباب التقدم العمي والتقني  وفعّلت مساقات التحضرواتجهت قواها إلى ميدان التنافس البناء في بناء القوى العلمية والمراكزالبحثية التي تستوعب العقول المبدعة,وتعتني أيما عناية بالابتكارات الاكتشافات التي تحصن موقع الوطن في علام يخوض غمار التمدن بأساليب مدنية تعطي لكل حقه ويجد المناخ الملائم ليمارس الفرد واجباته بطواعية وحماس الولاء للانتماء لمجتمعه ووطنه.

وما يقع من هذه الدروس في الحقل الآخر,تجربة الشمولية التي تكررت تحت مسميات مختلفة   وادعاءات ساذجة بعنوان إحنا غير الذي يعج بالغرائز العنصرية ويغلق أبواب التنوير ومنافذه عن المجتمع.والشمولية ليست لخير يعم على الجميع,ولا هي هبة لا يُحرم منها أحد,هي في جوهرها نظرة إلى الذات العقائدية وإلى الواحدية الأيدولوجية التي تحمل تناقضاتها الشديدة قي ثناياها,لأن الواحدية  فكرا وفلسفة ومعتقدا تبعث في نفوس معتنيقيها مشاعر مختلفة من الاستعلاء على الغير,ودوافع  متعددة مستويات الحماس على بث الروح الأبوية على من يتوهمون إنهم دونهم فكرا وعقيدة,  ويستطيبون بدرجات متفاوتة النظر إليهم بمشاعر الشفقة ولا يقيمون وزنا لرأيهم ولا يعتبرون غيرهم مؤهلين سوى كونهم رعية مسيرة تنعدم أمامها خيارات التذمرأوالمعارضة أو الرفض.

نقل المجتمع من حالة سياسية – اجتماعية حكمتها إدارة ساذجة عم فيها الفاسدون وتغلغلوا في مفاصلها الاقتصادية والتنموية واعتماد القوى الأمنية لكبت المعارضة,إلى حالة تحكمه فيها المطروحات   الشمولية والاستعلائية ذات الأجندات المصممة مسبقا وقد أهملت عامل الزمن وتأثيره المباشرعلى أصول الحكم ومنطلقاته الفكرية والوسائلية,ويهمل تجارب التاريخ السابقة التي مرت بها الطروحات الشمولية, وتستعين بقوى أجنبية تارخها الاستعماري ضارب في عمق التاريخ وأطماعها معلنة  وصريحة في استغلال الثروات والإبقاء على الأمة العربية مشتتة ممزقة بأيدي من ينتمون ستقود المجتمع بالضرورة المؤكدة إلى أوضاع الرعب وإلى  بؤر فساد ممنهج تحتكره فئة موالية توزع من بعض مكاسبه عطاياها على الضعفاء والمساكين يضع الوطن خارج مسارالتقدم وانتشارالظلم والتخلف.

بين الإيمان والكفر هناك دائما فرصة يهتدي الكافر فيها إلى الإيمان ويخرج المؤمن فيها عن طاعة وسطاء السماء ومحترفي تصنيف الناس بين الفسطاطين. وبين الثورة والتغييرفجوة تمثلها نقلة نوعية باتجاه العصرنة والترقي,ولا تمت حالة التغيير المشار إليها أعلاه إلى أي مفهوم ثوري,وإنما إلى نسخ الحالة السابقة من ظلم فرد بمؤسسة أمنية إلى ظلم جماعة بمؤسسات تنظيمية مسلحة ومدربة على   أعمال العنف والترهيب واستغلال الممؤسسات الأمنية في قهر إرادات شعبية تمثلهما مكونات المجتمع.

وليس من الحكمة أن يظن أحد أن الاستعانة بالأجنبي يمكن له أن يتحرر من الخضوع للإرادة الأجنبية وخدمة أغراضها بإخلاص ودون تذمر.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد