استفاقة ولو متأخرة

mainThumb

06-05-2013 12:44 PM

يستنير الفكر بطريقة التفكير التي تتماشى في رؤيتها مع فهم موضوعي لما يجري حولها من أحداث, وفي الوقت عينه, يستوعب الفكرالمستنير أبعاد الأحداث ومراميها ويربطها بكل ما يتعلق بمصالح أطرافها المحركة لها أوالمحرضة عليها أو الداعية لها أو المنفذة لها وغاياتهم ربطا يساعد على اتخاذ المواقف العملية والموفقة في التعاطي مع الأحداث تلك وإن لم يتمكن من ذلك فإنه يقوى على مواجهة نتائجها   بغض النظر عن طبيعتها ويخفف من جسامة أضرارها,ويعظم من جانب آخر من منافعها وفوائدها.... ولا يقع الفكر المستنير في العادة ضحية إهمال مراجعة التجربة التاريخية والاتعاظ بما آلت إليه وقائعها أو التغاضي عن متابعة التجديد الذي يطال الفكرمن مصادره المختلفة ونظرياته المرتبطة بمستقبل الإنسان ومصيره,والموجهة لمسارات التقدم والترقي,بل إن من أبرز ميزات الفكر المستنيرقوة إدراكه لما يحمله الزمن من تغيرفي الأنماط الفكرية وتجدد في نظريات السياسة وعلوم الاجتماع والاقتصاد والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا .... التي تتجاوب  مع تقدم النظريات العلمية وتوسعها والاختراعات التقنية وتنوعها  المتجاوب مع رفع الكفاءة الإنتاجية للعمل,والمتماهية مع سرعة إيقاع الأثرالمباشرعلى سلوك الناس وعلى وعيهم العام وتجاوبهم التلقائي مع توجهات العصر الثقافية ومنجزاته العلمية ومخترعاته التقنية.

الفكر المستنيرلا ينطلق من حالة ثقافية ثابتة تركن إلى تراثها دون فهم العلاقة الزمنية بين الفكر وبين المعلومات الجديدة التي راكمها العلم ببحوثه وبتحليله ودراساته المعتمدة على المعرفة وآليتها التي  توطنت مرجعيتها بتطبيق المعلومات تطبيقا عمليا مخبريا وميدانيا وتجريبها على أرض الواقع باستخدام التقنيات المتطورة باستمرارلتؤكد دقة القياس وصحته, وتحليل نتائجها وتقييمها واستخلاص العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض بدرجة عالية من الدقة.فالمعرفة ليست هي المعلومة أو حتى كما هائلا من المعلومات,المعرفة هي خلاصة تجربة المعلومات تجربة عملية وتطبيقية كلا في موضوعها,أي  في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية والسيكولوجية والسلوكية. أي إن المعرفة هي معلومة زائدا خبرة باختبار واقعية المعلومة ومطابقتها لموضوعها بالتجربة والقياس .

لم يبق على سبيل المثال تحقيق السعادة الشخصية منوط بالوعظ والتنبيه والإرشاد والنصائح,وإنما حاجته إلى تحليل ظروف والبحث في الأسباب ومعالجة نفسية وسيكولوجية!!. أي إن التفكيرالمستنيربحاجة    أيضا إلى لغة جديدة لا يتم تخيلها حلما أو قدرة,وإنما مصطلحات متماهية مع ما يتم التوصل إليه من نتائج جديدة بعلاقات جديدة وتسميات جديدة.

ولا تعفي مقولة أن تفعل الشيئ متأخرا خير من أن لاتفعله من الخطأ الذي كان يحتم ضرورة القيام بالفعل في زمنه الملائم له,ولا تعني الوهم بتدارك أضراره وإنما وفي بعض الحالات فقط على التخفيف  من أضرار النكوص عن فعله أو عدم القيام به بشكل متعمد أو بسبب جهالة أهميته وضرورة القيام به.أما  التعلق بمقولة ليس الوقت متأخرا ترجمة لمقولة never too late وحدود صدقيتها محدودة جدا خاصة ما يتعلق منها بالعلاقة بين أركان السلطة وزعاماتها وبين المجتمع بمختلف مكوناته.

فإذا افتقد النظام الحاكم في مجتمع ما ثقة المواطنين,وأضاع مصداقيته بأساليب الخداع والوعود التي لا تنفذ,وتحميل الآخرين سبب فشله,تبرير أخطائه,وافتقد الخبرة في إدارة الشأن العام,وفقد التوازن في قراراته الدستورية والتشريعية, والتعامل مع الأحداث المحلية والإقليمية والدولية,فلن تنفع في استعادتها, أي ثقة المواطنين, محاولات النظام ذاته وجهوده بنفس شخوصه أوبنفس مرجعيته الأيدولوجية البدء بالعودة عن سلوكه وتغييرسياساته وتطويرمناهجه والتراجع عن مواقفه السابقة والاعتذار عما يجب الاعتذارعنه,ونقد الذات واعتراف بالحاجة إلى تعديل المسار,لأن استعادة فقدان الثقة تلك أصبحت  مرتبطة  بضرورة الإصلاح الجوهري أي التغيير الجذري في المناهج وفي المرجعية الذي يقتضي تغيير في البنية البيروقراطية لمراكزالقيادة السياسية والإدارية للسلطة,أومراجعة نقدية جريئة للمرجعية العقائدية,أوإعادة صياغة المفاهيم الأيدولوجية بكل وضوح وصراحة.

الفكر المستنير لا يخلو من الغصة والتحسرلإدراكه الواعي لواقع الحال الذي يمر به وطنه برؤية    محسوبة على معالم سيرورة المجتمع,وعلى صيرورة الأوضاع العامة فيه ما دام ما يحرك النظام العناد والرغبة الثأرية والدوافع الاستعلائية,والوقوع في وهم ما يصلح لفكر السلطة فيه صلاح المجتمع,واستعداء الرأي الأخر وتجريمه,لتبريرالاستحواذ على مقدرات الحكم بنزعة أحادية لم تنجح في أي مرحلة من مراحل التاريخ,بل ما زال التاريخ يئن من مآسي التفرد بالسلطة في زمن ثبت فيه أن النظام الحاكم ليس بديلا للشعب ولا يحل محل مكوناته في التعبير عن مصالحه ورؤاه ,ولا يختطف دوره في المشاركة في  إدارة شؤون الوطن وقضاياه.

استفاقة بدأت تظهر ملامحها في أروقة رؤوس الحكم الحالي في مصر العربية,بدأها رئيس الجمهورية المنتخب(كما يحب الرئيس تكرار هذه العبارة) علنيا بالإشارة إلى منجزات الرئيس الراحل الزعيم القومي جمال عبد الناصرفي تصنيع مصر,على الرغم من الحملة القاسية والدائمة,بمناسبة وبدون مناسبة, على الزعيم الراحل وعلى القومية العربية ومحاولات تجريمه وإنكار دوره الذي أقرته العرب بتاريخها والعالم بذاكرته فيما أنجزه من تحريك القوى التحررية ضد الاستعمار وأعوانه,وجعل مصرمرة أخرى مركزا من مراكز التأثير في المنطقة بشكل خاص وفي العالم وأحداثه بشكل عام,التي يؤخذ رأيها بالاعتبار.

في ملمح آخر,أدار المحاور الإعلامي الكفؤ حمدي رزق على قناة صدى البلد نقاشا عنوانه لماذا يكرهوننا شارك فيه متحاورون من التيارات السياسية الإسلامية بمن فيهم من حزب الحرية والعدالة الإخواني الحاكم.ومع أن هذه العبارة استخدمها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن بعد اعتداءات الحادي  عشر من أيلول(كما يسميها الأميركيون) في نيويورك (غزوة نيويورك كما يسميها أتباع بن لادن) ليبدأ الفكر الأميركي الانتباه إلى حصيلة سياسات إداراته الخارجية وينتقدها بكل قسوة وينبه إلى الضررالذي  ألحقته تلك السياسات بالقيم الأميركية ومثلها التي جعلت منها أقوى دولة في العالم!

الإجابة على تساؤل من هذا النوع ليست إجابة سياسية عابرة,وليست صيغة خطابة عاطفية تحمل الحب والوعد,وهي بكل تأكيد ليست فرصة للاعتذارعن الأسباب التي دعت الكره واستحضرته في مشاعر الناس وفي عواطفهم,لأنها إن كان على المكروهين استدراكها تمثل فرصة للوقوف عند أسباب هذا الكره ودوافعه,وتقديم هذه الأسباب على أطماع السلطة ومكاسبها,لسبب بسيط وهو إن العصر الحالي عصرالقوى الشعبية المنبعثة فيها روح الشباب وحماسهم,وقد ولى عهد السلطة الأبوية,أو الرئيس الذي يعرف ما لا    يعرفه غيره متعللا بالمعلومات المخابراتية والاستخبارية.الحكم الرشيد لا يقع ضحية معلومات استخبارت ومخابرات لبناء السياسات,وإنما ذلك الذي يستوعب مطالب مكونات شعبه,ويدرك إن الحرية إن أطلت برأسها فلا قوة قادرة على ردها,وإن الحكمة اليوم هي إن الحاكم وحزبه ليسا بديلين للشعب وقواه تياراته,وليسا وحدهما بقادرين على توجيه المجتمع,الحكم الرشيدالذي تستدير بيروقراطيته تبعا لتحركات المجتمع وتوجه قواه المدنية لأنها,أي القوى الشعبية لا تخطئ طرق تحقيق مصالحها,وإن لم توفق في   اختيار من يحكمها منخدعة أو مغلوبة على أمرها في ظرف لم يمكنها من ممارسة حسهاالوطني المتحضر.

إذا وقعت مشاعر الكره في نفس بشرية,فلا طاقة غامرة بالعواطف تقوى على تحويلها إلى حب,وإن تمكنت مثل تلك الطاقة إلى التصالح مع العواطف البشرية بتخفيف وطأتها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد