تحدث أمور محيرة في مصر، ليس في السياسات الداخلية فقط، بل والخارجية أيضا. فزيارة الرئيس المصري إلى روسيا والتصريحات التي ظهرت بعد ذلك لها العجب! فالقول: إن سياسة مصر وروسيا منسجمة في الموضوع السوري تحتمل الكثير من علامات الاستفهام، بل والشكوك، ومن الصعب وضعها في سياق عقلاني.
ليس خافيا أن روسيا تساند النظام السوري بكل قوة، ليس دبلوماسيا ولكن أيضا عسكريا، وربما لولا هذه المساندة لما استمر النظام السوري إلى اليوم، كما ليس سرا أن النظام السوري يقوم بالقوة الفظة بتصفية منظمات وقوى من بينها القوة المنظمة التي لها علاقة وثقى بالإخوان المسلمين، إضافة إلى ذلك فإن موقف قطاعات واسعة من الشعب المصري مساندة للقوى الداخلية السورية المنتفضة، إذ على أي قاعدة سياسية يقوم النظام المصري بالتوافق مع روسيا في الموضوع السوري!
من المحتمل أن هناك أكثر من تفسير، أبسطها أن السياسة الخارجية للرئيس وحزبه هي سياسة التجربة والخطأ، وتغليب أهل الهوى، على حساب أهل الهوية، وهي أقرب إلى الطيبة المفرطة منها إلى الموقف الاستراتيجي، أما إذا أردنا أن نقرأ أكثر من ذلك فإن الممارسة الظاهرة هي تبني (القول ونقيضه) الذي يسري في السياسة الداخلية، كما في السياسة الخارجية.
الموقف الوحيد غير المتذبذب في سياسة مصر الخارجية، حتى الآن، هو الموقف من إسرائيل، تجاه احترام كل الاتفاقيات الدولية الموقعة بينهما، أما الباقي فإنه يخضع كما يبدو إلى مساومة، غير مفسرة ولا مفهومة وقد تكون ذات نتائج خطيرة. فبجانب الموقف المنسجم مع روسيا تجاه سوريا، فإن الموقف مع إيران يثير التساؤلات أيضا. يقول البعض خلف الأبواب المغلقة، إن العلاقة مع إيران وحزب الحرية العدالة، هي أكثر عمقا مما يظهر على السطح، بل إن بعض المطلعين يسربون إلى العلن، أن هناك تعاونا استخباراتيا له علاقة ببناء أجهزة تنصت وغيرها من الأجهزة الاستخبارية في المنظومة المصرية، كل ذلك يجري بمساعدة وخبرة إيرانية.
هذا الأمر إن صح فهو يعني أن وراء الأكمة ما وراءها، فليس خافيا موقف إيران الرسمي من مساندة سوريا، كما ليس خافيا أيضا طموحات إيران في المنطقة، وعلى رأسها منطقة الخليج.
هناك ما بين ستة إلى ثمانية ملايين مصري يعملون في الخليج، عدا الوشائج العميقة بين مصر ودول الخليج! فعلى أي قاعدة يمكن تفسير تلك العلاقة المصرية الإيرانية الملتبسة، وهي أيضا تناقض الكلام المرسل الذي يظهر بين الوقت والآخر في القاهرة أن «أمن الخليج خط أحمر» وهل يظن راسم السياسة في قصر «الاتحادية»، مقر الرئيس، أن أهل الخليج مصابون بعمى ألوان، أم أن تلك السياسة لها مقاصد أخرى، أي الضغط على الخليج ربما لتقديم مشروعات اقتصادية ذات بال! أو أنه إبداء استياء لعدم تمكين منظومة الإخوة في التنظيم الدولي (الخليجيين) من أخذ دور أكبر تأثيرا في السياسات المحلية تجاه تعزيز المشروع الغامض في إقامة دولة الخلافة! إن كان المقصد هو الأخير، فإن الوسيلة التي اختيرت قاصرة عن فهم العلاقات المتجذرة بين أهل مصر وأهل الخليج من جهة، كما هي قاصرة عن فهم العلاقات السياسية الداخلية في النسيج الخليجي التي حتى (إخوانهم) يعرفونها. أما إذا كان الأمر استراتيجيا فإن المخاطر هنا عظيمة وبالغة التأثير، ونتائجها المباشرة سلبية بالقطع. مهما كان القصد.
هناك مغامرة غير محسوبة تقوم بها السياسة الخارجية الرئاسية في مصر تجاه عدد من القضايا والملفات الخطيرة، يمكن توصيفها بحافة الهاوية، وهي الدفع بالأمور إلى الحافة ثم التراجع الكلامي عنها لفترة، ثم العودة بالدفع بها مرة أخرى حتى تتحقق بعض الأهداف المرادة. إنها توصيف لما يمكن أن يسمى تحطيب بليل! قد ينتج عنه الضرر البالغ للمصالح المصرية القائمة والمستقبلية، في مرحلة انتقالية وصعبة في كل الإقليم، تحتاج إلى الحكمة، أكثر من المناورة ذات الأهداف الضيقة.
الحديث شبه المعلن عن تدخل في الشؤون المصرية من دول الخليج يراد به الصيد في الماء العكر، وهو يؤسس إلى عداء شعبي غير مبرر وغير مستحق، إن كان هدفه الاستهلاك الداخلي أو الضغط التكتيكي فهو سيان. يقال أيضا خلف الأبواب المغلقة أو المواربة إن بعض دول الخليج قد اقترحت دفع مبلغ ضخم من المال من أجل إطلاق سراح مبارك، وهو أمر يقع في إطار الإشاعة أكثر مما يقع في إطار الحقيقة، لأن أهل الخليج ليسوا معنيين البتة بالتدخل في شؤون مصر الداخلية، وإذا كان هناك أفراد مهنيون، كمثل الفريق الكويتي القانوني للدفاع عن مبارك، فهو تصرف شخصي، وليس سياسة معتمدة سواء في الكويت أو خارجها في دول الخليج.
نعم مصر تمر بمرحلة اضطراب داخلي لم يتبين حتى الآن على أي ضفاف سوف ترسو السفينة المصرية، ولكن هذا خاص بالمصريين وحدهم، لا أحد يرغب في التدخل أو تقديم النصح، إنما ما يهم الجميع هو وصول سفينة مصر إلى مرافئ آمنة، ولا تترك سياساتها للأهواء في أعالي البحار، تتجاذبها الأمواج الضخمة الهائجة، وترسل رسائل متناقضة من أجل إنقاذ الحزب حتى لو غرق الوطن.
إذا كان المطلوب في السياسة الداخلية هو الغموض والمناورة وشراء الوقت، فإن المطلوب في السياسة الخارجية وبإلحاح الوضوح والشفافية، إذا كان ميزان السياسة الداخلية قد اهتز، ويمكن ضبطه بقليل من الحكمة، فإن اهتزاز الميزان الخارجي وتوسيع شقة الشك، يشيعان عدم الثقة، وتأثيرات متوسطة وطويلة الأمد، عدا ضرب الصدقية في مقتل.
آخر الكلام:
إذا اعتقد من خطف المطرانين الأرثوذكسيين في سوريا يوحنا إبراهيم وبولس اليازجي، أنه يرسل رسالة إلى روسيا على أساس أنها حاضنة للمذهب، فإنه بالتأكيد قد اختار صندوق البريد الخطأ، لأن مثل هذه الأعمال تشعل نيرانا داخلية، ولا تطفئ أي نيران خارجية، وهو قصور في الفهم ومحدودية في التصور، لأن روسيا تتعامل بالسياسة والمصالح وليس بالمذاهب، وهي تطبق على الحريات في الداخل الروسي، كما تساعد أمثلها في الأنظمة القمعية!