قبل ثلاثة أيام انتهت أعمال القمة الـ24 العادية في الدوحة، رغم أنها غير عادية بكل المقاييس. الرقم بحد ذاته مضلل، لأن هناك عددا من القمم غير العادية يكاد عددها يصل إلى نصف عدد القمم العادية، وهذا يعطي مؤشرا للمتابع أن العرب هم «أبناء اللحظة منفعلون بها» وكمتابع من بعيد لما جرى في القمة، بدا لي شكلا أن أولى الضحايا كانت اللغة العربية، رغم تأكيد البيان الختامي الطويل على العناية بها، فقد كانت أخطاء التعبير واضحة! ذلك على الهامش.
في صلب الموضوع، سوف أعتذر مسبقا عن استخدام تعبيرات بعيدة قليلا عن الدبلوماسية وهي ملاحظات واجبة لمتابع يرغب أن يكون منصفا.
أولى الملاحظات والقضية الأهم، وهي تمكين ممثلي المعارضة السورية، في سابقة تاريخية لم تكن حتى سنوات قليلة ممكنة ولكنها حدثت لشغل كرسي الدولة السورية. المفاجأة أن السيد أحمد الخطيب زعيم الائتلاف المعارض، رغم التعاطف الكبير مع قضيته، وعلى الرغم من عدم الشك في حماسه أو وطنيته، ولا عمق الجرح الذي عبر عنه، خذل جزئيا - فيما تحدث فيه - محبي سوريا الحرة، وأنا منهم، كان يحتاج أن يُسر في أذنه أنه قد أخطأ الهدف الذي أراده، وربما عاكسه دون قصد، فأخطاء الخطيب لا تتوقف عنده، بل تضر القضية برمتها، ومن قبيل واجب المصارحة والنصيحة كان يجب أن يركز على قضيته فقط لا غير، ويوفر النصائح الأخرى لحين آخر. الخطيب أخذته الحماسة وطالب بإطلاق المعتقلين في كل البلاد العربية، يعرف هو قبل غيره أن ذلك الطلب مشوب بتعقيدات سياسية وقانونية، كنت قلقا في أثناء حديثه أن يطلب من بعض الموجودين والمطلوبين إلى العدالة الدولية أن يسلموا أنفسهم، انسجاما مع أفكاره، واستمرت تصريحاته غير المدروسة، مثل الإعلان عن الاستقالة قبل أيام من لقاء القمة التاريخي الذي يعرف أنه سوف يحتضن تحرير سوريا - رغم تعقيداته - في خطوة غير مسبوقة، ولم يبق من فترة ولايته إلا أقل من شهرين، ثم أضاف إشارة لا مكان لها حول السلاح الكيماوي وحق سوريا في الاحتفاظ به. كانت بعض أفكاره خارج التغطية وهي خارج النص السياسي، الأهم أنها بجانب تركها انطباعا أن الجماعة «هواة سياسة لا محترفون» ترسل رسائل متضاربة وتثير غبارا في الشارع العربي يضر بالقضية ضررا بالغا، قد لا يثمنه البعض.
ذكرتني بعض أفكار الخطيب بـ«نصائح بشار الأسد» خاصة في قمة بيروت عام 2002 عندما قدم محاضرة سياسية فوقية للرؤساء العرب، عاد إليها بشار في خطاب أشباه الرجال بعد ذلك، هذه المدرسة السياسية توقعنا أن يتم تجاوزها.
وثانية الملاحظات هي المضحك المبكي وتحديدا الموقف العراقي في القمة، بجانب هفوة الإشارة من رئيس الوفد العراقي إلى اسم أمير قطر بحميد، بدلا من حمد، وهي هفوة تؤكد «منحى الهواية في السياسة» لا الاحتراف، فالمعلن من الموقف العراقي، أنه لا يريد التدخل الأجنبي في سوريا! ماذا تقول، هل نسي أن هناك تدخلا واضحا من إيران؟ ثم هل كان بالإمكان وصول أي من الوجوه القابضة على السلطة في العراق اليوم، لولا التدخل الأجنبي! وحتى يزيد الطين بلة فالموقف العراقي ضد تمكين المعارضة السورية من مقعدها الشرعي في القمة لأسباب «قانونية»، ذلك الموقف يذكرنا بخطوة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان التي بُددت في متاهات الممارسات السياسية العربية المزايدة القديمة في قمة شرم الشيخ في مطلع شهر مارس (آذار) 2003، وقتها كان اقتراح المرحوم الشيخ زايد أن يترك صدام حسين الحكم، بقرار شجاع من القمة، من أجل حقن دماء العراقيين، التي سالت بعد ذلك ولا تزال مدرارا، لم يرد أحد أن يستمع إلى تلك الحكمة العميقة التي تقدم مصالح الأوطان على مصالح شلل حاكمة، وانتهى الأمر بخراب العراق، وحين تعلم العرب من جسامة الخطأ في شرم الشيخ، وأرادوا أن يتخطوها في قمة الدوحة بالنسبة لسوريا، يأتي العراق تحت ذرائع مختلفة، كي يفشل ذلك الهدف النبيل، وهو حقن دماء السوريين أو على الأقل الحد منها.
الموقف اللبناني وكذلك الجزائري يستطيع المراقب فهمه جزئيا، أما الموقف العراقي فلا تفسير له غير أنه يمثل مصالح إقليمية قد تكون فرضت عليه لأنه يتعاكس مع ما حدث له قبل سنوات قليلة كما يتعاكس مع محصلة سياسية من المفروض أن العرب استوعبوها من التجربة العراقية المرة.
وثالثة الملاحظات حول فلسطين - وكما قال الشيخ حمد بن خليفة في خطابه الموفق - فهي مكمن الخطر على الأمن والسلام في المنطقة، ولكن من جديد، المشكلة في القيادات الفلسطينية، وقد وضعت يدي على قلبي عندما دعا الشيخ حمد إلى لقاء قمة مصغر في القاهرة - لا ينفض إلا وقد تمت مصالحة الفلسطينيين مع بعضهم - خوفي أن اجتماعا مثل ذلك لن ينفض أبدا، فلم تردع الإخوة الأعداء أستار الكعبة التي حلفوا حولها على نبذ الخلاف، ولا مؤتمرات القاهرة والدوحة ولا صيحة الأصدقاء ولا شراسة الأعداء، حتى يتصالحوا، إنه صراع على الكراسي، حتى بدا للبعض أنها لبعضهم أهم من القضية وأهم كثيرا من تضحيات المواطن الفلسطيني، رجلا وامرأة وصبيا وصبية، إنه صراع كسر عظم لكسب ماذا؟ والله لا أعرف، فلا أرض ولا سلطة ولا قضية تعيد لهؤلاء المتناحرين وعيهم بضياع لب القضية مع كل كلمة وفعل سلبي يتبادلونه مع بعضهم البعض، ويفتحون لعدوهم أبواب الإيغال في الصلف.
رابعة الملاحظات قضية أخرى مهمة تحدث عنها في القمة، وهي نقل الجامعة العربية من نادٍ إلى مؤسسة، بعد أكثر من نصف قرن وحتى الساعة، قرارات الجامعة في القمم العادية وغير العادية الكثيرة هي كلام مكتوب في الغالب يذهب سدى، بشهادة عدد من الأمناء العامين الذي تركوا لنا مذكراتهم، قراراتها - نظاما - من المفروض أن تؤخذ بالإجماع، وهذا الإجماع في الميثاق، موجود وغير موجود في نفس الوقت، فقد أصبح واقعا ممارسا على الأرض اتخاذ بعض القرارات المصيرية بالأغلبية، لعلنا نذكر أغلبية الاتفاق على رفض احتلال الكويت قبل أكثر من عشرين عاما، وأغلبية مناصرة الشعب الليبي قبل أقل من سنتين، واليوم أغلبية مناصرة الشعب السوري، كيف لمؤسسة لا تقنن الأغلبية وتعتمد الإجماع المستحيل حتى اليوم أن تنجز، فهي تعمل بطريقة غير مؤسسية، ألم يأن لها أن تصبح كذلك، كما أنها جهاز يبعث إليه للعمل في الغالب من انتهت صلاحيتهم السياسية، وفي حالة إقصاء، لا يتوقع كثيرون أن تنتج على أرض الواقع عملا له قيمة دائمة ومخططا له بوعي، ما بقي لها من مؤسسات هو تجمعان، المجلس الوزاري، الذي كثيرا ما يختلف أعضاؤه مرجئين القرارات الهامة للقمة، ومؤسسة القمة التي كثيرا ما تتفق بوجود القادة على أجندة، ثم يأتي البيروقراطيون من كل صوب ليعطلوا ما اتفق عليه لأسباب ظاهرها فني تخفي وراءها الأسباب المصلحية.
تلك قراءة مختصرة تحت بند غيض من فيض لما حدث في الدوحة.
آخر الكلام:
أبريل (نيسان) 2013 يأتي بذكرى الحرب الأميركية العراقية، وبالمناسبة تبرع عدد من قادة الفيالق في الجيش العراقي السابق لكتابة تاريخ مختلف عما نعرف، قال أحدهم على محطة تلفزيونية إن العراق مستهدف منذ نبوخذ نصر! وتدفق تزييف التاريخ، لا أعرف متى سوف تتغير عقليات تصر على أخذ شعوبها إلى التهلكة عن طريق التضليل!