لا تقتصر مظاهر الفشل السياسي لنظام حكم يحوم في مدار على شكل دائرة بلا زوايا من المصطلحات ومن الانفعالات تستقر بها المفاهيم والتجارب وتأخذ فيها معانيها التي استقرت عليها قواميس الشرح والتبيان مواقعها,وهي تسعى إلى التقيد بالمبادئ الشمولية التي أبطل الزمن مفاعيلها بعد أن تسببت بكوارث بشرية وضبابية فكرية تبني في العقول وهما يبدد قوة منطق العقل وقدرته على التحليل والتمييز بين ما نريد وبين ما يريد الآخرون وهذا وذاك بين ما نحن عليه وبين ما نقدرعلى فعله وبين ما يجب علينا فعله.
هناك مظاهر أخرى عديدة يتبين منها الفشل السياسي والإداري لنظام حكم :
رأى في السلطة قوة لفرض الرأي وإلزامالناس كل الناس به, وتخفى بستارالسلطة وقوتها لتحقيق مبادئه التي يؤمن بها فلم تسعف هذه المبادئ قوة طروحاتها وصفاء غاياتها ومحاكاة أماني الناس معظم الناس ومراعاة مطالبهم ورغباتهم الحياتية وأخذ موقع الحياد في موقفها من تراثهم وفكرهم وتقاليدهم وما يستقر في ضمائرهم من مشاعر قومية ومعتقدات إيمانية وتصدى بقوة السلطة لهدر حريات الآخرين الطبيعية والقانونية والاستفراد في صنع القرار ورفض السماه لهم المشاركة في صنع كل القرارات التي تطال حقوقهم القومية والعرقية والدينية والطائفية والثقافية والاقتصادية.
ونظام حكم يبرر قادته وزعماؤه ومحازبوه ومناصروه كل أخطائه ويصرون على تجاهل العودة عن الخطأ والبحث عن مهرب كلامي يكيلون فيه الاتهامات كيفما بدا لهم بأسلوب مرتبك ويربك سامعيه,ويبررون عجزهم عن تفسير أسبابها ليسقطوا في الخطأ مرتين فيفتقدون مصداقية القول والموقف والرأي,ويسوغون لمن يرغب من المشاغبين والمعاندين التسابق مع مثل تلك السلطة في منحدرات الفوضى والخراب.
نظام حكم يقف أمام ما يدور في المجتمع من أحداث سياسية ومعارضة وأعمال قتل ونهب واعتداءات من أطراف تشترك فيهاعناصرالسلطة من الحزبيين والمناصرين والمنافقين والمتسلقين والأجهزة الأمنية,موقف المتفرج المشدوه, دون قدرة على محاسبة أو ردع . نظام حكم يحدق بعينين مفتوحتين دون أن يرى,وينصت بأدنين شاخصتين دون أن يسمع, ويدير الأمربعقلية دون أن يفهم ويصر على صواب موقفها ويتعنت في الاستجابة للمطالب المشروعة وأحقيتها.
نظام حكم يرى في الأكاذيب مخرجا مستساغا من أخطائه وعيوبه,وفي التهرب من الوعود جريا في ملاعب الرياضة,وفي الإنكارلغة شعرية يطرب لها وحده.وفي التهديد والوعيد ملهاة أطفال يصرخون إن لمس أخرما يتلهون به من الملهيات ويشتكون منه.
نظام حكم لا يميز بين المعارضين وبين المشاغبين ويفشل في توصيف الفوضى وتمييزها عن الانقسام المجتمعي الذي ينتج عن سلوكها المفتقد إلى الخبرة مرة وإلى القيم الحضارية مرات عديدة ويخلط في فهم العلاقة بين الاحتجاج وبين الرفض,ويغض الطرف عن قسوة قوى الأمن وبطشهم وهمجية سلوك من يساندهم من القوى الحزبية المدنية في التنكيل بالمواطنين علنا,ويحمي من يُسخرون لاغتيال الناشطين وتصفية الصحفيين,ويوجهون تهم الاعتداء لمن يدافعون عن أنفسهم في وجه الطغيان والاستبداد.
نظام يضع تراثه السياسي وأدبياته في الحراك السياسي السابق لتولي السلطة,رهن الحفاظ على السلطة والتمسك بتلابيبها ومراقبة الانهيار الأمني والفوضى التي تستغلها جماعات خارجة على القانون, مناقضا لكل ما جاء بها ومتعارضا مع كل مضامينها التي استشرف فيها المستقبل الواعد بالسمن والعسل الذي يسوقه إلى السلطة وعنما حانت الفرصة له أخذته السلطة بأدبياتها وبطروحاتها التي تجعل السياسي مقدما على العقائدي,والمناصرمقدما على الوطني والمواطن الموالي مقدما على المواطن الحر,والداعم بالمال مقدما على داعية الأيدولوجيا وقيمها,والولاء للحاكم مقدما على الولاء للوطن,والمنتسب للحزب منزها عن سواه في كل ما يقول أو يفعل دون حساب أوعقاب.وفوق كل ذلك تراجع الأحوال الأمنية والاقتصادية والاستثمارية عما كانت عليه في عهد انقضى.
ويرى في الدولة بيت طاعة له ولعناصره بفعل به ما يشاء متى شاء وكيف شاء.ويضع معاييره الضيقة لقياس قضايا العامة وشؤونهم الواسعة والمتحركة بحكم قانون التغييرالطبيعي ,ويترك مرجعية تراث أمة لرأي رجل واحد,ويحرك الأمة في مسار يحدده رأي واحد تقره إرادة واحدة على أمة بمكونات تعددية لها إرادات متنوعة برؤى تختلف منطلقاتها وآراؤها لإغناء حراك الأمة في مسارات المعاصرة المتحضرة.
نظام الحكم الذي يستند إلى قوة القبضة الأمنية وقدرتها على الردع والترهيب والقسوة,نظام دكتاتوري بالضرورة,يسوق البلاد للفوضى والهلاك,وهو نظام مستبد يفتقد حس التعلم من التجربة والاتعاظ بنتائجها محليا ودوليا.وعندما يفتقد نظام حكم إلى الأمن ويستعدي القضاء والإعلام, ويستصرخ المواطنين لحماية النظام والاحلال محل قوى الأمن, يتفسخ النظام تلقائيا,ويفقد المجتمع هيبة القانون وتهدر فيه كل قيمه الأمنية والحقوقية التي تربط مكوناته وتبقيهاعلى الولاء للوطن.
نظام حكم يختزل الديمقراطية وقيمها بصندوق الانتخابات,ويجعل من نتائجه التي لم تعرف نزاهة أو مراعاة لحقوق المرشحين والناخبين مرجعيته الشرعية,ويظن الحاكم الفائز في تلك الانتخابات نفسه مفوضا تفويضا مطلقا من (الشعب) يتخذ القرارات كما يحلو له وكما تزين له مصالح الحفاظ على السلطة والاستحواذ على مؤسساتها وإطاعة القادة الحزبيين وتنفيذ أوامرهم بالحرفية المهينة لعقله ولسلطته (الديمقراطية).
الشرعية صفة ملازمة لكل عمل أو تنظيم أو نشاط تتفق على أسسه ووظائفه وبرامجه جماعة من البشر تبدأ باثنين وتمتد إلى ملايين منهم, بغض النظرعن طبيعة نشاطها ومجاله وأدواته.وشرعية أي نظام حاكم في أي مجتمع إنساني ليست هذه الشرعية غطاء لمرحلة محكومة بفترة صلاحية محددة يمكن للنظام الاستغناء عنها والتنصل من موجباتها والتجاوزعلى ضرورتها, وهي,أي الشرعية لا تشكل حقا مكتسبا ظرفيا لفعالية أو إجراءات في مرحلة سابقة,لأن الشرعية للنظام هي السمة المتصلة بسلوك النظام الذي حازعليها والملازمة اللصيقة لكل مرحلة من مراحل تبوئه السلطة لما تمارسه تلك السلطة الحاكمة من أعمال وما تتخذه من قرارات وما تركن إليه من إجراءات تراعي فيها مقتضيات العدالة وتضمن حقوق كل مكون من مكونات المجتمع الطائفية والعرقية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية ولا تتحيز لطرف أو جماعة أو حركة أو حزب أو تيارأو أشخاص أومجموعات في مسلكها بإدارة الشأن العام وفي التعامل مع قضاياالناس ومطالبهم وضمان مصالحهم.
تسقط شرعية النظام عند أي مرحلة من مراحل وجودها في السلطة, يخرج فيها ذلك النظام على أي مرجعية من مرجعيات المجتمع السياسية والقيمية والاقتصادية والتراثية والقانونية ودون تلاعب بتحريف المصطلحات ولي معانيها كي تخدم واقعات متناقضة فيما بينها وتتناقض مع أبجديات المرجعيات العلمية والمعرفية في الديمقراطية والعدل والمساواة والتوافق والمشاركة والحوار(قبل أخذ القرار!!) .وهذه المرجعية المجتمعية مستمدة من تقاليد ذلك المجتمع وقيمه التي رسختها مكوناته المتعددة على تراثه السياسي والثقافي والأخلاقي من ناحية ,وعلى الالتزام بالتشريعات والقوانين والأعراف السارية والتقيد بها دون تمييزأومراعاة مكسب نفعي لفئة بعينها في الحكم كانت أم خارجه.
تسقط الشرعية عندما يجد النظام في السلطة فرصة لاقتناص الحكم وتطويع التشريعات الدستورية والقانونية التي تحفظ له السيطرة على مقدرات البلاد والعباد وادعاء الصلاح والفلاح والتشهيربمن هم سواه من قوى سياسية ومدنية واقتصادية وفنية لا يجني من يتجاهل وجودها ويهدر دورها في المجتمع سوى الانعزال والوقوع في خطيئة الاستحواذ على السلطة التي تعجزعن حملها وحدها.فيصبح النظام ضحية فقدان الثقة الشعبية به.
وعندما تسقط شرعية نظام حكم ويظل الحكام متمسكين به تتحول الدولة إلى دولة سائبة محملة بالفشل وفقدان التوازن,ليس بسبب عوامل اقتصادية,أو سياسية ,أو عقائدية أو اجتماعية أو أمنية أو قانونية, وكل عامل منها كفيل وحده لاعتبارها دولة فاشلة,وإنما فقدان الشرعية ينسحب على تفكيك قوى الربط بين هذه العوامل كلها وتفقدها تماسكها الذي هو العمود الأساسي في الدولة الحديثة المبشرة بمستقبل واعد. (أنظركتابنا التعددية والتنوع محركا التقدم والتطور).