كان الحال,فيما أسلفنا في الجزء الأول من هذا الموضوع,يتمثل في معارضة قطاعات عريضة من أفراد الشعب لعلاقات العديد من النظم العربية مع الدول الغربية التي لم تتنازل عن خطههاالاستعمارية الاستغلالية للوطن العربي وثرواته,واعتقاد تلك النظم إن ارتباطها بتلك العلاقة ارتباط مصيري,تحمي تلك القوى من خلاله النظم المرتبطة بها والتي أقامتها ونصبتها على أنقاض التجزئة الجغرافية العربية, من السقوط خاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي انتصرت فيها قوات الحلفاء على قوات المحور,التي كانت حربا أوروبية – أوروربية بشكل رئيس.
كان تعزيزالهجوم السياسي والثقافي على تلك النظم يكسب جدارته ويكتسي بالمشروعية الوطنية من تأثير القوى الغربية على مجريات الأحداث في المنطقة العربية ودعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين,ومن ممالأة الحكام لتلك القوى واستعانتها بها عسكريا واقتصاديا, وكانت في ذلك الزمان القوى التي اتسمت بصفتها الوطنية تكتسب شرعية تلك الصفة من خلال مواقفها المعلنة المعادية لتدخلات القوى الأجنبية ومن تسميهم حينها بالعملاء,وركزت تلك القوى أدبياتها وخلاصة فكرها السياسي على قضايا التحرر والسيادة الوطنية مما رفدها بتأييد جماهيري واسع ونشط مفعم بالحماس والاندفاع وراء تحقيق مثل هذه الأهداف النبيلة فعلا.وكانت في دوافعها تسعى للحكم إذ ادعت أن السلطة وسيلة لتحقيق أهدافها المعلنة فإذا بالسلطة تشغل كل فكرها وتطيح بالعديد من أهدافها وإذا بها أسمى غاية تحققت لها.
ظلت حركة جماعة الإخوان المسلمين تهادن نظم حكم الملكيات والإمارات العربية في الخليج العربي,وتتعاون معها ووقفت إلى صفها في صراعها مع القوى القومية واليسارية واتخذت منها ملجأ آمنا ومصدر معاش وإقامة فيها بعد محاولة الحركة اغتيال الزعيم جمال عبد الناصر بشكل خاص وتعرض الجماعة لملاحقة النظام لها.ومم يستجلب الذاكرة وقوف هذه الحركة إلى جانب النظام الإيراني الإسلامي في حربه ضد العراق (العراق بلد إسلامي كان يقوده نظام حكم قومي الرؤى والتوجهات بقيادة المرحوم صدام حسين!!).
كانت الانتكاسة التي عانى منها الضميرالوطني,والصدمة التي ألمت بالمشاعر الوطنية العربية, بقيام دول الخليج عامة والسعودية بالتحديد باستدعاء القوات المسلحة الأميركية والغربية وبعض القوات العربية لتدمير العراق واحتلاله ونهبه.ولم يكن هذا لاستدعاء خيارا حرا لها وإنما رضوخا لطلب أميركي – صهيوني صمم على تدمير العراق ونهبه وتخريبه بعدأن عمل العراق على الاستمرار في دعم المقاومة الفلسطينية,وبعد مفاجأة المفاعل النووي العراقي الذي أرعب الأعداء في مختلف الاتجاهات.ولم تكن تلك الانتكاسة مفاجئة,ولم تكن الصدمة عصية على الصحوة التي لم تستغرب قيام تلك الحكومات باستدعاء القوات الأجنبية ومنحها كامل التسهيلات الإرضية والجوية وتغطية تكاليفها الباهظة.وقد أدخل هذا السلوك المتواطئ مع أعداء الأمة المعلنون عداءهم صراحة,تاريخ الأمة العربية في خانة مضغوطة ومحشورة بحالة من الاضطراب الذهني ومن ضبابية المفاهيم الوطنية وخلط معانيها وتدني خطابها وانحدار قيمها.
وفيما يبدو إنه حالة موت سريري للضمير الوطني,لم تجد مؤسسات مثل الجامعة العربية,وأحزاب وحركات دينية مسيسة وحراكات شعبية أي حرج من توسل استدعاء قوات أجنبية لتصنع لها ثورةعلى بلدها وليس فقط على النظام.فوجدت في حلف الناتوبكل أحقاد الساسة في الغرب وتأهبهم لنهب الثروات العربية المستجيب بحبوروسرور.فدمر ليبيا,وسيطرعلى نفطها وتركها نهبا للفوضى والتقسيم والحروب الداخلية من كل لون وصنف.وكل منها يتقاتل من الأخريات وفي الوقت ذاته يتحدث باسم الشعب,ويدعي تمثيله والتعبير عن مصالح الثورة ومصلحة الشعب الليبي (كله!!).ولم تتعظ بعض الجماعات التي تتحارب في سوريا من محنة التوسل للغرب وقواه,لتقوم وبتواطؤ الجامعة العربية مع الرغبة القطرية,والأطماع العثمانية في الإلحاح على مجلس الأمن لتدميرسوريا بالقوى الغربية نفسها, فوجدت آذانا صماء لعدم قدرتها وخوفها من نتائج التعرض لسوريا ذات التاريخ المقاوم لكل قوى احتلال والاستعمار,وقد وضعت تحالفات سوريا الدولية القوى الغربية أمام حجمها الطبيعي الذي يستأسد على دول صغيرة وضعيفة ويفعل ذلك دون رحمة أو شفقة على طفل أو امرأة أو شيخ.فكان الخيارلإعلان حرب الوكلاء والمجندين وبعض السوريين للقيام بمهمة إنهاك الدولة وتدميرمؤسساتها وبناها التحتية ودور العبادة ونهب المصانع والمنازل,وإشغال جيشها في حرب عصابات تديرها الاستخبارات الأجنبية وتتباهى بمجازرها قوات (ثورة الشعب السوري!!).والمعارضة السورية المنقسمة إلى أكثر من ثلاين فصيل,إلا إن كل فصيل منها يتحدث باسم الشعب, ويقاتل من أجل الحرية بقيود الغرب وشروطه,ويعمل كل ذلك بادعاء الحرص على مستقبل سوريا وأماني الشعي كله!!.
تحولت المنهجية المرتبطة بالقوى الأجنبية من كتاب النظام العربي إلى موسوعة قوى وأحزاب وتيارات مختلفة أصول المبادئ وعقائدها,تنادي بها وتبررلها وتسعى إليها وتحملها مسؤولية فشلها في نجاح (ثورتها).ولم تعلم تلك الجهات أن النجاح فعل ذاتي صرف,وأن الاستعانة بأعداء الحرية لا يجلب إلا استبداد,وأن دعوة ناهبي الثروات لا يديم للثروة قيمة لمن يستحقها!!
شهدنا في الحالة الأردنية ادعاءات التعبيرعن الشعب كله من أكثر من حزب وجماعة وتيار,وفي كل حراك هتافات باسم الشعب وبإرادته تقوم بها فئات سياسية هي جزء من الشعب.الوفد الذي ذهب إلى سوريا لمقابلة الرئيس الأسد تحدث باسم الشعب الأردني,أي ليس بالمؤيدين للموقف السوري في الحرب الدائرة على أرضه من قوى عربية وأجنبية مختلفة.وجاءت فئة تستنكرهذه الزيارة لتدعي أن الشعب الأردني كله مع (الثورة ) السورية,أي ليس فقط الإخوان المسلمين وبعض الجهات السلفية التي ترسل المقاتلين إلى سوريا علنا!!.وشهدنا في الدول العربية (الربيعية), شعب يطالب بإسقاط النظام,وشعب يؤيد شرعية نفس النظام بالتزامن.(وليتنا لم نسمع تفسيرالرئيس المصري للفرق بين المطالبة باسقاط نظام مبارك وإسقاط نظام مرسي!!)
نشهد نقابيين يعتصمون ضد قرارات نقابتهم,ويدعون قضايا فساد في سلوكها المالي والعقاري, وعمال يعتصمون مقابل اعتصام عمال آخرين في شركات يعمربإنتاجها الاقتصاد الوطني.
حان الوقت,بعد كل هذا التجاهل, الذي ترتقي فيه الشعارات السياسية والمطالب الحزبية والفئوية إلى مستوى تعبر فيه عن نفسها وتدافع فيه عن عقائدها وتطالب بما تطرحه من شعارات مبادئها.لأن الشعب مكونات عديدة ليس من حق أحد أن يتحدث باسمها أو يعبر عن رغباتها أو يقررعنها مواقفها,فلكل مواطن الحق في التعبير عن نفسه,ولكل حزب أو تيار أو جماعة أن تفعل ذلك باسم حزبها وجماعتها وتيارها فقط دون التمادي وتجاوز حق الآخرين في التعبير عن أنفسهم بالطريقة التي يقررونها هم أنفسهم.