لطالما كان النضال الشعبي في العديد من الأقطار العربية,ومن ضمنها بطبيعة الحال الأردن,يتمثل في الخلاف بين الأحزاب والتيارات السياسية والحركات الدينية (كانت جماعة الإخوان المسلمين بالأردن على وفاق مع النظام وظلت كذلك ردحا طويلا من الزمن) على الموقف من قوى الاستعمار ونزوع الدول الامبريالية إلى إحكام الهيمنة السياسية والاستثمارية والاقتصادية على المنطقة العربية بشكل خاص وعلى الإقليم بكامل دوله ونظمه للطبيعة الجيوستراتيجية والجيوثرواتية التي تعمربها وتعطيها أهمية جهدت تلك القوى الأجنبية على حرمان أبنائها من مزاياها ومن دورها في تدعيم أسس نظم قوية تملك حرية قرارها السياسي والاقتصادي.
تأثرت دوافع التحررمن القوى الاستعمارية بقيام نظم حكم انتهجت النهج القومي في حشد التأييد الشعبي بإعلانها سياساتهاالمتفقة مع مطالب قوى شعبية مسيسة ومتنورة التي تلخصت في مسألتي االتحرروالاستقلال والتنمية والتطور باستخدام الثروات العربية لتنمية أوطانها ورفع مستوى معيشة سكانها.وكان من شأن ذلك أن تقف القوى الأجنبية وأعوانها والمستفيدين من دعمها إعلان العداء السافرلتلك الأنظمة العربية وتسخير المال والإعلام والتآمر والتجسس على تقويض أركانها ومحاربة أفكارها التقدمية وخوض الحروب الغادرة ضدها,كما حدث لمصرفي عهد عبد الناصرفي السابق وللعراق في عهد صدام حسين في الماضي القريب,وما تقوم بها تلك القوى في سوريا اليوم.
المعضلة المزمنة التي لم تتبرأ منها أي من الأحزاب والتجمعات السياسية والتيارات الدينية وجماعاتها تتمثل بوضوح بادعاء متكرربأنها إنما تمثل الشعب,وتتماهى في مطالبها وحراكها ومواقفها مع الإرادة الشعبية.وهي معضلة فيها الكثير من الحاجة إلى القيم الأخلاقية لأنها تسطوعلى أرادات غيرها من المواطنين ولأنها تدعي زورا تعبيرها عن الشعب دون أن تجهل أن الشعب مكونات عديدة متنوعة في مبادئها وفي مطالبها وفي أطيافها السياسية والعرقية والطائفية,وفي مصالحها وفي ثقافتها.ولم يقتصر التنافس بهذا الادعاء على الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية,إنما كان للنظم الحاكمة أيضا دورها في التعبيرعن مصالح الشعب وإرادته وهي تعلم علم اليقين بأن الشعب مكونات متعددة ومتنوعة لكنها اتقنت لعبة إفراغ التعددية من قيمها التوحديدية للمواقف والتجميعية لقوى الشعب التي تحقق مصالح كل فئاته وطوائفه,أسوة بسياسة فرق تسد التي نجحت قوى الشر في تجييش أطرافها ضد بعضهم البعض.
استفادت النظم الحاكمة من معضلة الأحزاب في التعبير عن نفسها بأنها الممثلة للشعب وإنها القوة الموعودة للصلاح والإصلاح على الرغم من التناقض في عقائدها والتباين في سياساتها والتنافر بين قواها والتنازع الدائم بين تنظيماتها,ففقدت بهذا ثقة الناس بادعاءاتها لنفسها ما ليس فيها وما هو ليس من اختصاصها ولا من إمكانياتها تحقيقه للشعب.
فإذا كان الحزب الشيوعي يمثل الشعب ويعمل على تحقيق رغباته وتأمين حاجاته بالاقتصادالاشتراكي,وإذا كان مثل هذه الادعاءات يسوقها حزب التحرير الإسلامي الذي يسعى إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية التي يميز دستورها غيرالمسلمين والمنتمين إلى طوائف إسلامية لا يقرها الحزب ولا يعترف بها ويضعهم في مرتبة أدنى من مرتبة المواطنة.وإذا كان حزب البعث كذلك يشارك في الادعاء بالتمثيل الشعبي والتعبير عن إرادة الشعب,وللإخوان المسلمين كذلك تجربة قائمة في مصر بكل إشكالاتها والسقطات التي وقعت فيها وما قادت إليه من انقسامات في الشعب المصري وحالة عدم استقرارلم يسبق حدوثها من قبل,وليس الوضع في تونس بأفضل منه في مصر حيث عصفت في نظمهما السابقة ثورة شبابية متنورة سرعان ما فقدت شبابها وحيويتها الثورية بعد استيلاء الإخوان على مقادير الحكم في كل من البلدين(تتهم السلطات في كلا البلدين يتزوير الانتخابات والتلاعب بنتائجها,ومع ذك تنطق باسم الشعب كله,تدعي الشرعية الشعبية وتمثيل إرادتها). وهكذا الحال بالنسبة لطروحات الأحزاب الدينية الوسطية ,الأحزاب الليبرالية وجميع الأحزاب التي لم تستطع أن تبلور منهجا واضحا لمبادئها,أو نسقا سياسيا مستمرا تتضح في المواقف من القضايا التي تمر المجتمعات العربية بها,ولكنها كلها تتحدث باسم الشعب,وتنوب عنه في مطالبه التي لا تستطيع تحديدها أم معرفتها إلا تلك منها التي يحقق لهاالمنافع الآنية والتي قد تضربغالبية من أبناء الشعب وتضيع عليهم فرص نجاحهم وتذهب بأمانيهم مذهب الإحباط والملل.
فمن إذن يمثل الشعب؟كيف هو وضع هذا الشعب الذي تمثله كل هذه التناقضات الفكرية والمبادئ السياسية ومناهجها المتعارضة والنظريات الاقتصادية ومدارسها المتضاربة التي تتبناها تلك الأحزاب؟؟؟ وهل هناك من حزب واحد يمتلك معايير قياس الرأي العام ويميز بين الرأي العام وبين الإرادة الشعبية؟؟ (يعترف كثير من علماء السياسة والاجتماع بأن لا وجود فعليا لما يمكن وصفه بالإرادة الشعبية,ولكن هناك إرادات شعبية تبعا لطبيعة التعددية وتصنيفها التي يقوم بنيان المجتمع عليها).وأي من هذه الجهات لا يرمي بكل ما يمكنه من الوصول إلى السلطة كي يحقق أهدافه الخاصة به والتي يريد أن يفرضها على الشعب الذي يدعي تمثيله بنعومة الشعارات,وتدليس لأساليب والوسائل التي تقود إلى وهم التحكم بإرادة الشعب وتوجيها بالقوة والقسر.
وليس من تفسير لإصرارهذه القوى الحزبية والتيارات السياسية والجماعات المسيسة على ادعاء وصايتها على الشعب واحتواء إرادته سوى محاولة للهروب من ضيق حجمها ومحدودية تأثيرهاعلى الرأي العام ووالفشل في كسب تأييده.ومرد ذلك الضيق التنظيمي والمزاج الحاد والانفعالي كامن في فقدان القدرة الحكيمة على التجديد والتجدد في التفكير وفي أساليب العمل وفي استيعاب متطلبات المراحل العلمية والتقنية والمعرفية التي تمر بها المجتمعات المعاصرة.
الفكر الفاعل المتماهي مع واقعه والمستمد مفرداته من عقول أصحابه وأقلامهم ليس بحاجة إلى سلطة كي يصبح فكرا جيدا,لأن الفكر الجيدهوالفكر الفاعل الذي يسود بين مكونات المجتمع ما دام يخاطب العقول ويساوي بين الأفراد ولا يمايزبين حقوق الجماعات ويتعالى على ثقافتها,ويسخر من فكرها.ويظل الفكر أفضل عندما يبقى مطروحا وفق معاييره المتعلقة به وبالمبادئ التي تقف خلفه وتشكل قاعدة منطلقه ونشره على الملأ,وتظل الشعارات معبرة عن مصداقيتها عندما تنطلق وفق غايات أصحابها,التعميم في كلا الحالين يضيع المصداقية الفكرية ويفقد الشعارات بريقها ورونقها. وهذا هو الفكر الذي يحمل أصحابه إلى السلطة,ولا يحتاج إلى السلطة كي يكتسب مصداقية وتاييد العديد من مكزنات المجتمع وقواه الوطنية.
الوطنية والانتماء الوطني ليسا عملا سياسيا ولسيا عقائد حزبية ومطالب حراكات وتيارات مسيسة, لأن كلا منهما التزاما فرديا أخلاقيا في الأساس ووفاء لقيم حقوقية وإنسانية .