ما زالت النخب السياسية والحزبية في وطننا العربي بشكل عام,وتلك التي لها مرجعية مبادئ شمولية بشكل خاص لم تجد سبيلها إلى إدراك تفاوت سياق المفاهيم والمنطلقات النهضوية بتعاقب الأجيال الذي حسرت المعلوماتية ومدن المعرفة فيها فترة هذا التعاقب إلى حدود زمنية قصيرة الأجل لا تتعدى خمس سنوات في حدها الأعلى.ولو اقتصر تفاوت المفاهيم على حالة من الدفاع عن طروحاتها لدى كل جيل من أجيال المعرفة والمعلوماتية, من خلال التجربة الطويلة التي مرت بها الأمة العربية ذات التاريخ الحضاري العريق لكُنا توصلنا إلى حالة معرفية تهدئ من اندفاع النخب في حوارها وفي ندواتها من الترويج لما ترى فيه منفعة الوطن وتنصيب نفسها وصية على الشعب حاملة همومه مناضلة من أجل فقرائه ومظلوميه,وادعائها تمثيل رغباته والتحدث نيابة عنه والعمل بما يتراءى لها إنه يخدم قضية الوطن ورفع شأنه,عداك عمن ينصب نفسه قيما على أخلاق المجتمع محافظا على تراثه وعلى دفء العلاقة الأسرية فيه !!.
ظلت ظروف الكفاح ضد قوى الاستعمار الغربي والنضال المشروع من أجل التحرر والسيادة,الذي عانت وما زالت تعاني أمتنا العربية منه ومن آثاره الآثمة العديدة,بعد أن خرجت من حكم التجهيل والإفقار العثماني, من احتلال وتهجيروتجزئة جغرافية خلقت من كل جزء منها دولة شبه وهمية في قدرتها على الدفاع عن نفسها وعن استقلال قرارها الاقتصادي والسياسي والسيادي,وعن التصرف بثرواتها بما يحقق منفعة بلادها ومواطنيها.
أي دولة قائمة بلا سيادة حقيقية على قرارها السياسي والاقتصادي والتنموي, تشكل بيئة صالحة في زمنها وظروف نشأتها لنشاط وطني بين أبنائها,نخبوي السمة حيث التقت نخبه من الوطنيين والسياسيين على أهداف تحررية عامة من الهيمنة الأجنبية, تهم هذه الأهداف كل مواطن بغض النظر عن أي انتماءات أو التزامات أو مرجعيات عقائدية ومنطلقات مبنية على مبادئ تخص كل نخبة منها, لا جدال فيها,ولااختلاف على ضرورتها,فلاقت النخب بذلك ترحيبا واسعا من قطاعات واسعة وشاملة من المواطنين,ولكنها,على ما يبدو ظلت أسيرة نخبويتها ومنظورها الأبوي لجماهيرالشعب,ودورها القيادي للوطن والمواطن بفرضها رأيها ورؤيتها على المجتمع كله, وهي بذلك سلكت مناهج جهل متفاوت في أدبياتها ومرجعياتها القيمية لأهمية التعددية ومكوناتها في مجتمعاتها وفي داخل تنظيماتها وفي صراحة التعبيرعنها وعن الحقوق الطبيعية للإنسان المواطن.
مرت الأمة العربية وأمم أخرى بتجارب تاريخية لأحزابها وتياراتها السياسية,وبتجربة القيادة الكارزمية في مراحلها المختلفة,حيث لعبت الشخصيات الكارزمية في التاريخ الحديث الدورالأهم والحاسم في تحررالشعوب وتنميتها, التي حظيت بها كما غاندي ونهرو في الهند,أتاتورك في تركيا,وعبد الناصر في مصر.
تمثل حقبة الحكم الناصرية من جملة ما تمثله من دور في التاريخ المصري من جهة وفي التاريخ العربي من الجهة المقابلة مجموعة من الدلالات, في العصر الذي اندفعت فيه الشعوب بحماس وحمية مطالبة التخلص من الهيمنة الامبريالية ومن الوجودالاستعماري الذي شكل الجسم الضخم من تاريخ أوروبا الاستغلالي بكل دولها وبمختلف أحزاب كل دولة منها.ويمكن إيجاز هذه الدلالات بما يلي:
الدلالة الأولى :كان الزعيم جمال عبد الناصر,رحمه الله يمثل ظاهرة بشخصيته الكارزمية وحساسية مشاعره التي عبرت عن مشاعرالمواطن المصري الطيب البسيط الاقتصادية والمعيشية,فلم يغتر بمنصب ولم تفتنه سلطة ولم تغره زعامة ولم تقد أي منها إلى تغيير سماته الشخصية القيادية ولم تعمد إلى التشكيك في بساطة انتمائه لشعبه فظل معهم وبينهم لا فوق أحد ولا أمام أحد.فكان بذلك جمال عبد الناصرصانع الزعامة وليس صنيعتها,وظل يضع المناصب في مواقع ثانوية,فكان من أعظم رجال الدولة المحظيون بتأييدمصر وعربي شعبي منقطع النظير.
الدلالة الثانية : لم يقتصر التأييد الشعبي الكبير على الشعب المصري,لأن عبد الناصر بحسه الوطني ووعيه لدورالأمم التاريخي وفهمه لعوامل التقدم الحضاري وعناصره وفي التيقن من أهمية امتداد مصر العربي وتحسس بفطرته أهمية البعدالقومي في تنويرالوعي التحرري وإذكاء الحماس للوحدة العربية التي تمكن الأمة من استثمار قواها البشرية وخيراتها وثرواتها في بناء قدراتها وإعدادها لمواجهة تحديات التقدم والتحضرومواجهة أعدائهاالتاريخيين من الدول الاستعمارية وأعدائهاالتقليديين من الأنظمة العربية التي وصفها بالرجعية العربية وكليهما يجدان في الوعي القومي العربي خطرا حقيقيا على وجودهم وعلى مصالحهم.
لقي عبد الناصرالتأييد والدعم العارمين في الأوساط الشعبية العربية في مختلف أقطارهم مما لم يلقاه أي زعيم عربي في التاريخ المعاصر,وفي الوقت ذاته أثار حفيظة القوى المعادية للقومية الأجنبية والصهيونية والعربية. فأخذت تعد العدة وتستعد بكل ما أمكنها لمواجة المد الناصري واحتوائه والانقضاض عليه مستعينة بالحرب النفسية والإعلامية والاستخباراتية والعسكرية وكل ما ملكت من وسائل لمواجهة خطرا قوميا حقيقيا على وجودها وعلى مصالحها,وهوأي تكاتف أعداء الأمة في الخارج والداخل يشكل الدلالة الثالثة على ما مثلته الفكرة القومية الناصرية من تحد حقيقي لأعداء الأمة العربية وأمانيها في التحرر والتقدم.
ولعل تبني جمال عبد الناصرلمطالب الشعب,وحديثه عنها يمثل أصدق حديث وأنقى تعبير حقيقي عن أماني الشعب وآماله في مصر وفي الأقطار العربية,وبذلك استحق أن يمثل الإرادة الشعبية تمثيلا صادقا وعمليا.وقد استطاع أن يوحد القوى والتيارات المتعددة من مكونات المجتمع ويكسب ثقتها ويعبرعن تطلعاتها النهضوية ليس من هافية مصممة مسبقا بل من معايشة يومية للمواطن وتلمس حاجاته وتحسس معاناته.وقد فعل ذلك كله على الرغم من وجود أحزاب عديدة في مصر بشكل خاص مثلتها قوى وأحزاب عديدة منها؛ الوفد والشيوعيون والاشتراكيون وحزب مصر الفتاة وحركة الإخوان المسلمين سابقة لعهد عبد الناصربعدة عقود من الزمن,وعلى الرغم من حل تلك الأحزاب ( وهنا لا ندعي بصوابية هذا القرار) واعتقال العديد من قادتها وإلغاء دورها العلني في المجتمع المصري,إلا إن الشعب بغالبيته العظمى لم يعترض على هذا الإجراء, ولم يدافع عن تاريخ هذه الأحزاب أويذكر من محاسنها شيئا,وظلت لعبد الناصرمرجعية تراثية وتاريخية مقترنة بتأييد شعبي عارم, مميزة بفكرها المنحاز للشعب بمختلف مكوناته وإنجازاتها العملاقة في التصنيع والتعليم والزراعة والكرامة بعد وفاته قبل أكثر من أربعين سنة,وهذه الدلالة الرابعة من دلالات تجاوز الناصرية لثقافة أحزاب وجماعات وتنظيمات وتيارات ظلت عقودا طويلة تمثل تجمعات نخبوية عاجزة عن كسب تعاطف الشعب مع قياداتها ومع طروحاتها.
والدلالة الخامسة: مثلهاسلوك أنورالسادات ألعوبان السياسة الذي كان مصيره الاغتيال,ومن ثم محمد حسني مبارك الخامل سياسيا وفكريا الذين حكما بقسوة القوى الأمنية وسطوتها فقامت ثورة شعبية شبابية ألقت بمبارك وبحقبة السادات خارج التاريخ,افتقدت الثورة إلى شخصية شخصيات قيادية,اغتصبتها حركة منظمة منذ أكثر من ثمانين سنة لم تتمكن من إقناع نفسها أنها مؤهلة لحكم دولة عصرية, فانقسمت مصرشعبيا, وساد الاستبداد واغتيال النشطاء من جيل العشرينات وسفك الدماء وسحل مواطنية عراة!!.
سجلت الشخصية الكارزمية انتصارا شعبيا كاسحا على أحزاب وجماعات وتيارات نخبوية لم تتمكن من أن تصل إلى معرفة سوى ما تؤمن به من فكر ولا تتبع مناهج سوى ما يلتزم تلك المبادئ منها ويحقق لها المكاسب الفئوية,فتجمدت علاقاتها بالشعب,واتسعت الهوة بين الحكام وبين المحكومين, وفي هذا تكمن حكمة مفادها : إن من يتجاوز حقائق التاريخ يظل خارجها مهما بلغت قسوة نظامه وتحديها لمشاعر الناس وأمانيهم في التحرر والاستقلال الحقيقيين.