من محاسن الفطرة الفلسفية لتفسير أسباب أي ظاهرة أو دوافعها من تلك الظواهر التي تأخذ مجراها في حياة الناس العامة والخاصة بما يتعلق بدورالفرد في مجتمعه,إنها تنساق وراء الفكرفي تفسيرها وفي تحليل عناصرها المسببة لها ونتائجها المتمخضة عنها, وليس وراء تسلسل أحداثها الظاهرة ذاتها. ولعل تطور الفكر وبلورة قيمه وملافظه ومعانيه تدين للفلسفة النقدية في أسباب ترقيها ووصولها إلى مستوى من الثقافة العامة تجعل منها منهجا يستعصي في جوهره على كل أساليب التبرير الساذجة والمضللة .
والمسحة الإبداعية في هذا الأسلوب التحليلي تكمن في استبعاد مجريات التبريرالساذج للظاهرة,الذي يستدرج العقل إلى إغفال متعمد وتلعثم مربك للاعتراف بالخطأ وتمييز القدرة على إقرارالخطأ لتجنب تكراره من زاوية, والتهرب من المسؤولية المباشرة وحتى غير المباشرة من زاوية ثانية,ولكسب احترام الرأي العام المراقب والمتابع للسلوك الإداري لشخوص النظام الحاكم من الزاوية الثالثة.لأن أسلوب التبرير والتهرب من مواجهة الخطأ مدعاة قسرية إلى اللجؤ لتحريف الأحداث وإلى الإبداع في صوغ الأكاذيب وتخيل الأوهام واختلاق المبررات.والكذب على الصعيد الفردي مصدرالموبقات التي يقع الفرد في براثنها,أما على الصعيد الجماعي فهو طريق فساد متحقق ببيع الضميروتجنب مواجهة النفس لتقويمها لتجد النفس ذاتها في منزلق من دوامة الأكاذيب ليس على الآخرين لخدمة أهداف حركية متوخاة,وإنما سيجد الكذب مسرحه في داخل الحركة وبين أعضائها, وهنا تتشكل نواة تآكل الحركة التي تجد في التبرير,ليس فقط لحدث هنا أو هناك ,وإنما في الاضطرار إلى وضع الفكرالمترسخ في القيم السياسية والأخلاقية موضع التعريف الممسوخ والمتناقض مع أبسط عناوينه ومعانيه.
آفة العقلية التي تقع ضحيةالإصرارعلى تحقيق غايات ترى فيها مصالحها دون تمييز للبدائل الأخرى والخيارات المتاحة,إنها,أي تلك العقلية وقعت في خطأ التمييز بين الكذب ودوره وممارسته في السياسية وفي حملات الترويج لمبادئها وفي تبريرمواقفها المتخاذلة إزاء الأحداث ومجرياتها,وبين الخداع الاستراتيجي ودوره وممارساته في السياسة وفي الصراعات الداخلية والخارجية الذي تتبناه العقول المتفتحة بذكاء وفطنة لكسب موقف من قضية هامة,أو تحقيق نصر في الصراعات العسكرية.حيث يؤدي نقص الخبرة أو الدراية أوالذرائع المقنعة إلى السقوط في وحْل الكذب,بينماالذكاء والفطنة والتمسك بالقيم الأخلاقية للمبادئ إلى ترسخ الثقة والتواصل مع المنجزات التي تحقق تطلعات الناس وتحمي حقوقهم بالتنسيق الدائم معهم وتلبي لهم مطالبهم العادلة في العيش الكريم.
الظروف المحيطة بنظام حاكم,والأحداث التي تتوالى في زمنه ليست هي التي تصنع طريقة الحكم ومنجزات أدائه,ولا هي بصانعة لمجده السياسي – الاجتماعي أو مميزة لشخصيته واقتداره.ما يصنع القيادات السياسية والزعامات الحاكمة بكل ما تحمله معاني القيادة والزعامة ومفاهيمهما , قبول الناس من مختلف الانتماءات السياسية والفكرية المنصفة والمتجردة من الأغراض الخاصة والمترفعة عن الأحقاد والضغائن بها وثقتهم بنواياها وتجردها ونزاهة مواقفها,ويتجلى ذلك في كيفية التعامل مع كل ظرف منها,ومع كل حدث من أحداثها ,ليس هذا فحسب بل وتقييم نتائج هذا التعامل ووضع مخرجاته في وضع نقدي يصدق مع النفس أولا,ويقر بمسؤليته عما يخرج منها عن السياق الوطني, ثم مع الآخرين بدرجة لا تقل في أهميتها عن الأولى.
كما أن الجمال تتشابه عناصره,وتلتقي معايير تقييمه وتصنيفه,كذلك هو الأمر بالنسبة للقبح.جمال الصدق واضحة معالمه مثبتة وقائعه.وقبح الكذب مشوهة معالمه,مرتبكة وقائعه لأنها تلجأ للتبريروالهروب من تحمل المسؤولية بكافة أشكالها.
مرت البشرية بمنطلقات متعددة صاغت من خلالها أنواعا من من أشكال الحكم ونظمه ومنظوماته.وتفاوتت هذه النظم في تصنيفها السياسي- الاجتماعي بين النظم الشمولية,والنظم الديمقراطية وبعض الأشكال الفردية – النخبوية المتصفة بالنظم الدكتاتورية.ولكل منها سماته العامة,وخصائصه الواضحة والمعلنة,ومن كل منها تجارب تاريخية في حياة الأمم والشعوب التي تملأ اليابسة وتتكاثر عليها.ومما يمكن أن نستنتجه من هذه الخبرة التاريخية لنظم الحكم التي شهدتها البشرية في تاريخها الحديث بأن:
*-لا تختلف اساليب الحكام الدكتاتوريين في حكم البلاد والعباد إى باختلاف القضايا التي تواجه كلا منهم.ففيها تكون السيطرة على مفاصل الدولة للأعوان والمنتفعين,وتقيد فيه الحريات الأساسية للمواطن,ويكون الدكتاتورصاحب الأمر والنهي,وصانع مجد الأمة !والقائد التاريخي ....وهو المرجعية النهائية لكل السلطات التشريعية المنتخبة بطرق شتى والتنفيذية المعينة بعطف القائد ورضاه على شخوصها.وفي غالب الحيان تورط الحطام الدكتاتوريين بإثارة حروب محقة منها وغير محقة,وهم في بعض تصوراتهم لذواتهم متفقون مع تطلع القوى الاستعمارية والامبريالية لذواتها وأطماعها وأساليبها المتحفزة لإثارة الفتن والحروب وإخضاع الدول الأضعف لسلطانها.
*- تتشابه أساليب النظم الشمولية إلى حد التطابق في غالب الأحوال وفي مختلف الأزمان.والشموليون مقيدون بمبادئ يرون فيها صلاحها للجميع,ويدعون إنهم رعاتها وحماتها,ويعكسون ذواتهم المضعضعة فكريا على مفاهيم تلك المبادئ وعلى مضامينها وقيمها.وهي بذلك أي الشمولية عصية على التجاوب مع واقعها الذي تمر به ومع بيئتها السياسية والاجتماعية التي تعيش في ظلالها,ويقع أبرز مفكريها وأكثرهم فصاحة وفطنة في قوقعة فكرية تتلاطم في رؤوسهم خلالها مسببات التناقض مع الواقع المتغيردائم التغير والتبدل الذي تستجد فيه مفاهيم القيم وموضوعات الثقافات ومجالاتها ومصادر المعرفة وأدوات التقدم ووسائل التطورالذي تتسابق الحضارات البشرية في إبداعاتها وفي تنوير مساراتها وعقليات مفكريها ومفلسفيها في ميادين التنافس الدولي كي تجد لنفسها موقعا لائقا يحقق لها استقلال قرارها الوطني وحفظ كرامة مواطنيها أينما سكنوا وحيثما حلوا.
من أبرز سمات النظم السياسية الشمولية التي ترتسم معالمها في التجربة التاريخية هي,الخطوات الكسولة في الانجاز, والتثاقل الممل في مراحل انتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى,والخمول في أداءالنشاطات الفنية والثقافية ,والتردد والضعف في تحقيق المنجزات والارتباك في معالجة الأمور والقضايا التي تواجه السلطة الحاكمة, وبلادة في التجاوب مع رغبات المكونات الشعبية الفاعلة والشبابية والتراجع عن قرارات تبرها بقوة وتتخلى عنها دون خجل,وإلى تقليص تأثيرها في محيطها على الصعد الاقتصادية والتنموية.وتظل السلطة والحفاظ عليها في مقدمة أهدافها وتضعها في مستوى يتفوق على مستوى مبادئها في الاهتمام والدفاع عنها,ويظل الكلام الكبير سبيل التغطية على الفشل.
*- النظم الديمقراطية بمختلف أنماطها وأشكالها تتفوق على غيرها من النظم في الاستقراروالتقدم وفي تحقيق المنجزات التنموية المستدامة,وفي القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية والثقافية, وهي نظم استوعبت مستقبل مسارالإنسان بقراءة الواقع ومزجه بالتجربة التاريخية بعقل منفتح على كامل التجارب الإنسانية دون تحيز أو تعصب وضمنت لمكونات مجتمعاتها كافة حقوقها دون استعلاء أوفوقية بل أدانت ذلك وتقوم بمعاقبة كل المخالفات التفضيلية لبشرعلى آخرأو فكرعلى غيره أو معتقد على ما دونه أو ما فوقه.وحافظت بذلك عل كرامة الإنسان المخلوق بإرادة سماوية واحدة تتعاظم قيمتها بتعاظم قدرة الإنسان على التقدم والتعلم والإبداع والابتكارعملا ومنجزا لا ادعاء وخطابة.
تتجلى حماقة النظم الشمولية في ادعائها الساذج بالديمقراطية,فهي لا تخدع سوى نفسها وتؤكد تخلف طرحها الديمقراطي في عصر لم يعدالتخلف فيه محمودا.!!ولم تدرك بعدأنالتاريخ تجاوزمثلهاوطروحاتهاالسياسية.