النقلة النوعية التي حققتها المبتكرات العلمية والمخترعات التقنية وازدهارمنطلقات الفلسفة في مختلف أوجهها التي استهدفت الإنسان كموضوع لمدارسها العديدة,ووجدت لطروحاتها بيئة ذهنية منفتحة على استقبال الأفكار وأخذها بمنهج نقدي مقارن تستوضح من خلاله عن إمكانية تحويل أيا منها إلى منتج,بعد أن تيقن الإنسان إن المهم في أي فكرة هي قابلية تطبيقها في حياته اليومية,في المساقات النظرية و الفكرية التي تحفز العقل على مزيد من البحث والدراسة,أوفي المساقات العملية التي تعود عوائدها عليه بالمنفعة في المجالات الإنتاجية من صناعية وزراعية وتجارية,وفي وسائل التعليم والاتصال والانتقال التي اختزلت عامل الزمن إلى حدود جزئياته الأولية,وفي وسائل القتال والحروب الإلكترونية والفضائية التي لم تعد بحاجة إلى تلك الأعداد من الأفراد في الجيوش التي اعتادت اعتماد الكثرة العددية كمصدر قوة وتهديد ضمني ومجال تفوق على الجيوش الأخرى.
كل فكرة وجدت طريقها إلى المناهج النظرية التي يعتمد العقل على الرجوع إليها في دراساته وفي ملخصات طروحاته,وكل فكرة وجدت عقلا إبداعيا تمكن من تحويلها إلى منتج مادي أو إلى أداة من أدوات البحث والتحليل,تعتبر فكرة حيوية,أي تحمل في ثناياها بالضرورة مجموعة أفكار جديدة,ومبادئ فكرية تجديدية ,أومعان جديدة ومفاهيم تختلف عن سابقاتها, وهي بذلك تشكل أداة من أدوات التغير المباشرة.
ونشير هنا إلى موقف سطحي وقفته القوى المحافظة التقليدية,وتصبح القوة محافظة تقليديةعندما تظن أنها اكتفت بما تعلم ,وإنها تريد تطويع المجتمع وتدجينه بما توصلت إليه معارفها,متجاهلة ما تحمله جزئيات الزمن من تبدلات معرفية,وقفزات تجديد علمية وعملية,يتثقف بها مسار التنمية المتسارع في عالم تنافسي شرس وأناني,ويتلخص هذا الموقف في إنه يمكن لأي مجتمع أن يبتاع التكنولوجيا الحديثة وأن يستأجر الفنيين والخبراء الأجانب لتشغيلها والاستفادة من حداثة منتجاتها,وإن يكن ذلك بكلفة باهظة,متناسين أو متجاهلين بأن كل مبتكر تكنولوجي,مهما تواضعت تطبيقاته العملية إنما يحمل فكرة جديدة,تحمل في طياتها حيوية تجديدية في الفكر ذاته وفي رفع سوية التطبيقات وتنويعها وتوسعة مجالات تطبيقاتها ودرجة دقة نتائجها وما تحمله هذه التغيرات من فكر جديد يؤشر إلى مخترعات جديدة تحمل معها فكرا جديدا وقيما جديدة تتصدى لما هو سائد من تقاليد وأعراف فتعمل على إلغاء ما لا يصمد منها وتغييرما يحتاج إلى تغيير او تبديل,وهكذا تتسع دائرة الفكروتتنوع مجالاته وتترقى نتائج تطبيقاته وتزداد فاعلية وقوة دفع المجتمع إلى قلب التمكن من المنجزات الحضارية ومن مُمَكِنات التحضر والترقي.
أي وبشكل مختصر,فإنه عندما تتحول الفكرة إلى منتج يمكن استعماله في الحياة اليومية,فإن هذا المنتج يحمل معه صيغة فكرية أبدع العقل البشري في إثراء معلوماته منها وحملها طاقة تفكير جديد يحفزعلى مزيد من البحث والابتكار,في المجتمعات المتنورة والمستنيرة بدوافع قيمية تترك للعقل المساحة الكاملة للتفكير بكامل الحرية تشجيعا على الابداع .وهكذا تتجدد دورة الإبداع بفكر يفوق الفكر السالف ومنتجات تتفوق على سابقاتها,ومع كل منتج جديد وسائل جديدة وإنجازات متميزة ومبهرة,وفكر جديد ومناهج عمل تتجاوب مع مجريات الحداثة ,وتتراكم المعرفة وتزداد انتشارا لتصل إلى كافة بقاع المعمورة, وتصبح سهلة المنال لمن يرغب بالاطلاع على ما يهمه من معلومات,وتترك أثرها على البنى الثقافية في تلك البقاع بغض النظرعن وضعها في تصانيف التقدم والتخلف.
ولعل أكثرالمباحث التي تأثرت تأثرا مباشرا وساهمت في تنقية بناها الثقافية من ظاهرة مزمنة تمثلت في أعباء تسلط الإنسان على أخيه الإنسان,واستغلال القلة المقتدرة على جهود الكثرة المحتاجة إلى تأمين الحد الأدنى من احتياجاتها المعيشية,هي مباحث العلوم السياسية,وبعض النظريات الاقتصادية.فقد تبلورت صيغ جديدة لعلاقات عمل جديدة,وعلاقات حكم مختلفة تمام الاختلاف عما كانت علية حيث كان يمن صاحب السلطة على الرعايا بأنه بقررعنهم ويصنع لهم مستقبلهم ويحمى حمى الوطن لأمنهم,وإنه رئيس لكل واحد منهم ويرعى مصالح أبنائه المواطنين دون تمييز!! وهي كلها ادعاءات لم يتمكن أي زعيم سياسي تبنى مثل هذه الخزعبلات إلا أن يكون كاذبا ودكتاتورا ومستبدا.فلا وجود لمشاعر إنسانية يساوي فيها الرجل المرأة بين أبنائه أبنائها وبين الآخرين مهما تسامت أخلاقه أخلاقها تمثلا بالملائكة وتماثلا بأخلاقهم ورعايتهم.
المواطنون ليسوا أبناء الرئيس أو إخوانه, ولا الرئيس رئيس كل مواطن,هذا هومفهوم الشأن الديمقراطي الأولي والمبدئي,لأن الرئيس المنتخب ديمقراطيا,هو الرئيس الدستوري,أما علاقة ذلك بالأشخاص فمرده سياسي تنافسي.
ليس بإمكان الرئيس أي رئيس,أو الحكيم أي حكيم,أو الزعيم أي زعيم في أي زمان أو مكان أن يقيم العدل ويرعاه بقراراته وأعماله ومواقفه ومواعظه ودروسه,وليس باستطاعة حزب أو تيار أو جماعة أن تقيم العدل بمبادئها ونظرياتها وقواعد الحكم التي تصيغها لنفسها,وترى فيها خيرا لغيرها.لأن العدل تقيمه التشريعات والأنظمة والقوانين واحكامها التي تتولى تطبيقها المؤسسات وتقضي السلطة التشريعية بها في ضؤ تلك التشريعات.وهذا أيضا لا يمكن أن يتوفر إذا كان استقلال القضاء رهن برغبة حاكم أو سلطان ترهيبا أو ترغيبا.الموقف الأخلاقي أمام القانون لا يجيز استثناء أحد ولا يكترث لمن ينتمي هذا الأحد أو ينتسب,ولا أي مركز يتولى أو منصب يتقلد,كماهو الحال بالنسبة للمجتمعات التي تضحك على نفسها بنَسبِ نظمها إلى البيئة الديمقراطية وقيمها زورا وتزويرا لمعالم تلك البيئة وركائزها.
العدالة لا تمثل تحديا لعقل الفرد ومعرفته القانونية,وإنما تحديا صريحا لميوله ورغباته,وتحديا مباشرا لانتماءه العشائري أو العقائدي أو الإثني,أو الطائفي, أو الحزبي أو البيئة التي ينتسب إليها,أو لبعض هذه الأسباب أو جملتها.وهي تحد صارخ لقيمه الأخلاقية وتمسكه بقيم النزاهة والنظافة من كل من شأنه إفساد ضميره.وهذه الصفات التي تتصف بها مبتدأ عضوية السلطة القضائية ولا يكتسبها الزعماء السياسيون, وموظفو السلطتين التنفيذية والتشريعية بالضرورة.
وليس الإنسان عادلا بطبعه أوبقابلية شخصية أو برغبة منه,ولهذا يضع الإنسان القوانين والتشريعات العقابية والرقابية التي تنظم العلاقات بين مكونات المجتمع وبين مؤسساته المختلفة ,وتنتظم على إيقاعها ولا تجرؤ على تخطيها القيادات السياسية وزعاماتها والرئاسات وأطقمها ,وتتعاقد هذه كلها مع باقي الناس في المجتمع على الاحتكام الصارم إليها,لأن الظلم مغر لكل من تمكن منه أو ظن أن بإمكانه الإفلات من العقاب على أفعاله السيئة والمخالفة.ولم يعد الحاكم يملك السلطة الحاكمة ويتصرف بها كما يشاء وكما يفعل بملكيته الخاصة لمال أو عقار أو مشروع, مهما تعاظمت قدرته على التحايل والخداع ,وعلى الادعاء بالحرص على الصالح العام,وإنما تناط السلطة به كي يراعي تطبيق العدالة الوضعية بالالتزام بالقوانين والتشريعات,والاعتراف الكامل بأن من أبسط مبادئ العدالة,والحرص على الصالح العام هو حق كل مواطن المشاركة في رسم مسارتحول المجتمع نحو التقدم والترفع عن أسباب التفرد والاستئثاروالتهميش التي تغري زعيما أحمق أو فكرا شوفينيا أو سلطة أبوية عفى الزمن عليها.
الزمن زمن المعرفة التي أيقظت الضميرالوطني لدى كل مواطن,وبينت له حقوقه الطبيعية والقانونية في أن يحقق ذاته في مواطنته,وفي دوره الدستوري في وطنه.إنه زمن المعرفة بالديمقراطية وبقيمها,زمن تتكشف فيه النوايا مها تدثرت بأثواب مزينة ومطرزة تزيف الحقائق وتقفز فوق حواجز المراقبة والمحاسبة بوهم الفئة القائدة والجماعة الواعدة.إنه زمن الديمقراطية الحقيقية المستندة إلى حريات حقيقية ومدعمة بقوى المجتمع التعددية لتنمية حقيقية ونهضة حقيقية,يملكها الجميع بمساهمتهم الجماعية بها.