لم يعد وهج السلطة مستمدا من الرهبة التي كانت تدخلها في النفوس أو المكاسب بلا حساب التي تجلبها لصاحبها والجاه الخادع الذي تقتضيه صلاحياتها والتودد لتجنب أذى قراراتها,فقدأصبحت السلطة في المجتمعات المتحضرة مرادا لطلاب الشهرة الذين يشعرون بملكة العطاء المتفوق والإنجاز الكفؤ والرغبة فيالمشاركة في المنافسة بين أنداد للوصول إلى مراكز صنع القرارفي المجتمع وذلك بقرارمتوج بالإرادة الحرة لكل مكونات الشعب في الدولة أو في أي من مراكز التقسيمات الإدارية فيها,أو الإرادة الحرة لكل عضو في حزب أو منتدى أومؤسسة تجارية أو صناعية أو خدمية,أوجمعية خيرية أو ثقافية أو علمية....
الإرادة الحرة إرادة فردية يعبر فيها الفرد عن موقف أو رأي أواختياربحرية كاملة تكفلها تشريعات بمساواة تامة بين الناس,دون أي تحيز أو تمييز أو محاباة.والإرادة الحرة تظهربأبهى تجلياتها في المجتمع الحردون سواه,والحرية شرط مسبق أو سابق تاريخيا وعمليا على إقامة الديمقراطية المتجلية وسائلها وأساليبها مع قيمها وتراثها المتراكم منذ عدة قرون سالفة التي لم تعد خافية على علم أحد أو ثقافته الحرة ,ولم تعد تجدي معها محاولات الالتفاف الساذج على تحويرمعانيها أو ابتداع أشكال متخلفة تبرراللجوء إليها محاولات ماكرة وادعاءات كاذبة بالديمقراطية المزيفة التي تختزل كل تراثها بصندوق اقتراع تتلاعب به فنون التزويروتفتقد في إجرائها الحد الأدنى من النزاهة.
والحرية التي تعارفت عليها مبادئها وأسس العلوم والثقافات منذ الأزل هي قيمة فردية,أي إن الحرية حرية فردية,ما لم يتم الخلط المقصود أو المتجاهل أو الأمي المعرفة أو الخواء الفكري بين معنى الحرية وبين معنى التحررالذي تتصف به الأوطان والشعوب عندما تتخلص من قوى التأثيرالأجنبية على قرارهاالوطني وعلى مسارها السياسي وتدخلها في شؤونها الداخلية,منهكة بذلك سيادتها.التحرروصف للتخلص من القيود الدكتاتورية والأجنبية التي ألفتها القوى الإمبريالية في سياساتها الاستعمارية التي قمعت خلالها حرية الإرادة العامة التي تلتقي عندها إرادات الأفراد وإرادات كل مكونات المجتمع لمقاومة قوى الاحتلال واغتصاب الحريات والثروات التي تمتهنها قوى الاستعماربكافة أشكاله ومصادره,وتداعب أحلام القوى التي استيقظت لديها أحلام امبراطورية عفى الزمن على تاريخها الحافل بالتجهيل والظلم والفساد, المتناقض مع أبسط قيم التحرر وأهدافه.
وإذا عم فهم مشترك في علوم السياسة وآلياتها للسلطة بإنها وحدة مؤسسية الأركان والبنيان مناط بها مهمات مدسترة ومشرعة بالقوانين والأعراف المشتركة بين أطرافها عليها تنفيذها ضمن صلاحيتها المحددة, بافتراض النزاهة والأصول المهنية وتكون خاضعة للمراقبة والمحاسبة المدسترة والخاضعة للتشريعات والقوانين المتفق عليها بين أطرافها المعنية بها كذلك,فقد ألفت الشعوب في تكوين دولها ثلاث مكونات أساسية في بناء كيان الدولة أصبحت معروفة لدى القاصي والداني وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.وهنا يبرز السؤال أين موقع الديمقراطية من هذا التقسيم للسلطات ما دام أخذ شكله العام في مختلف الدول بمختلف النظم وأنماط متعددة للحكم ؟.
ليس هناك من ينكرإن الاختلاف في الآراء والمواقف بين المواطنين من القضايا العامة أمرطبيعي ولكنهم لا يطيقون التعامل مع المختلفين معهم وسرعان ما يكيلون لهم الاتهامات ما صح منها وما كذب,وما كذب يفوق عادة ما صدق منها.ولكن هناك من يرى في الاختلاف أمر طبيعي وضروري في الوقت ذاته,وإن ضرورة الاختلاف نابعة من توظيف الفكر في خدمة القضايا العامة بصورة تتكامل منطلقاته النظرية والأيدولوجية مع مجريات الأحداث ومع شروط الواقع ومتطلباته.أما عندما يتعلق الأمر بالمواقف السياسية على مختلف الصعد ,المحلية والإقليمية والدولية,فلم يعد يكفي التقول بأن السياسة فن الممكن,لأن هذه المقولة قد تصلح في ثقافة سياسات الدول المهيمنة والقوية الساعية إلى فرض إرادتها على الدول الأضعف,أو تلك التي ارتبط مصير نظمها الحاكمة بدعم القوى الطامعة والمهيمنة وإنما السياسة في الزمن المعاصرفن التكامل بين مصلحة وطنية وبين بناء علاقات إقليمية ودولية لا تتعارض منهجيا مع المصلحة الوطنية, وجوهر المصلحة الوطنية هو الاستقلال والسيادة الوطنية الأمنية والسياسية والاقتصادية,ولهذا تتركز جهود القوى التي تسعى للهيمنة على المساس بها أو ببعضهاأو بأي منها كي تحقق مصالحها دون عناء.
المعارضة في الدول المتحضرة أمر طبيعي وضروري لأنها تتماهى مع طبيعة العلم وطبائع المعرفة, وتنبع من الإقراربأهمية التعددية وضرورتها التكوينية والبنائية في تصميم قوى المجتمع المتماسك والمتآلف والمتحالف,التي من دونها لا تكتمل مناهج سياسية بالنضج ,,ولا تتخلص برامج عمل وإنتاج من نواقصها ومن أخطائها, ولا تتكون مدارس الفكر النافذ ومؤسساته ,وترتهن أيدولوجيا فكرية أوعقائدية إلى رؤية نخبوية متجاوزة الرؤى الثقافية الأخرى في البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعبرة عن آراء ومواقف إنْ لم تتعارض مع طروحات تلك العقائد فإنها بالتأكيد لا تتفق معها كيفما شاءت لها العقائد.ولها صحافتها ووسائل إعلامها وأدواته الحديثة التي تتحرك دون قيود أو معيقات بحجج واهية.
المعارضة في المجتمع المتحضرحركة ترى نفسها جزءا من مكونات شعبها,تتبنى مبادئ ترى إنها تلبي طموحاته,وتستجيب لما يحقق مصالح فئاته,وليست حركة عقائد تريد للمجتمع أن يتبناها,وتجد في انتهاز الفرص فرصتها,وهي حركة اتعظت بتاريخ الفكر وحركاته ومنظماته,ولفظت المبادئ الشوفينية,والعصبيات العرقية والطائفية والثقافية, هي قوة مؤسسية بتشكيلات متنوعة (أحزاب,صناع,زراع,نساء,جمعيات,منتديات,نقابات,صحافة وإعلام ..), تقوم بمراقبة سلوك الدولة وتصرفات المسؤولين فيها,وتثير التساؤل حول السلوك المخالف للعرف,وتمنع الفساد بعدم التعاطي بوسائله في الحد الأدنى لجهدها في هذا المجال, وتردع التجاوزعلى التزامات السلطة وتحد من تغولها وتجاوزالأسس العامة المتفق عليها والمبنية على التوافق العام.وهي قوة سياسية تأخذ هامشا واسعا من التنافسية مع السلطة القائمة وتؤكد أهمية تبادل السلطة وتداولها بين القوى السياسية ومؤازروها وداعموها من المنظمات المدنية غير الحكومية.
والمعارضة في أي مجتمع هي الصيغة المرعبة لقوى الطغيان والاستئثاروفرض الرأي والاقتصاص من قيم الحرية الفردية. وهي الفكرة التي تشغل بال الدكتاتور وتأخذ من وقته وجهده لقمعها والتخلص من أطرافها ما لم
والمعارضة المتسقة مع الصالح العام,والمنسجمة مع أهداف التنمية والتطور والتحديث والمؤمنة بما لا يقبل الشك إن السلطة مرحلة من مراحل إثبات الذات اكتسبت خبرتها ممارسة السلطة حينا والعودة إلى المعارضة حينا آخر,فأيقنت إن مبدأ تداول السلطة في حد ذاته,مدرسة عملية وخبراتية تضع مناهجها حيوية الحرية في التفكير والتعبير,وتتماهى مع طبيعة التغير والتطورالتي لا تتوقف وتزداد في تسارعها بين لحظة وأخرى. وهي بذلك تستحق لما تتبناه من مواقف وتتقبله من انتقادات وتتعلمه من تجارب وتذهب مذاهب النقد الذاتي تستحق لقب السلطة الرابعة,فهي سلطة الأمس ومؤسسة المراقبة والمحاسبة الناجعة اليوم.
**(كنا قد أشرنا إلى السبب الذي لا يمكّن الصحافة من أنْ تكون سلطة,في مقال سابق في السوسنة)
تأخذه قضايا الوطن العامة ومصالحه.