الورقة النقاشية الأولى التي طرحها الملك عبدالله الثاني بن الحسين كجزء من سلسلة من الأوراق النقاشية المتأمل أن يتم طرحها لاحقاً، حملت في ثناياها الكثير من المفاهيم والمفردات والقيم والمضامين والرسائل، وهذه الأوراق بالمجمل جزء من الرؤية الإصلاحية للملك، وهي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن هناك رؤية ثاقبة وإرادة سياسية جادة وقوية لدى صانع القرار الأول في البلاد لتعزيز وتعميق النهج الديمقراطي في البلاد.
والرؤية لا تقل أهمية عن الإرادة السياسية، فالرؤية تقدّم وتؤخّر، وتحيي وتميت، والإرادة تعكس الرغبة في إحداث التغيير المنشود، وبدون الرؤية والإرادة لا يمكن إحداث التغيير المطلوب، وبالتالي نبقى نراوح مكاننا ويتعذر قيام نظام ديمقراطي مكتمل الأركان.
الورقة النقاشية المطروحة جاءت مكونة من ثلاث أجزاء أساسية:
الجزء الأول تناول توقيت طرح الورقة، وهو بدء الحملات الانتخابية لانتخابات مجلس النواب السابع عشر، وهذه الانتخابات لا تزال مثار جدل واسع للمجتمع الأردني، بالرغم من التعديلات التي طرأت على العملية الانتخابية برمتها، وليس قانون الانتخاب وحده والذي أصبح فيه مكان للقائمة الوطنية، ولكن لا يقل أهمية عن القائمة الوطنية إنشاء الهيئة المستقلة للانتخابات لطي حقبة انفراد وهيمنة السلطة التنفيذية في الإشراف على الانتخابات وأحياناً التحكم بنتائجها (تزويرها بشكل فاضح)، لدرجة أفقدت المواطن الثقة بجدوى العملية الانتخابية، ومن المفردات والقيم والرسائل التي أكدت عليها الورقة في هذا الجزء مسائل متعددة ومتنوعة وفي غاية الأهمية، منها أن النيابة ليست حصانة وامتيازات ومكاسب شخصية، وذلك على النحو الذي مارسه النواب في أكثر من مجلس، وإنما خدمة للناس وتمثيل للشعب وتحمل لمسؤولية وطنية كبرى، وعلى من يتصدى لها أن يضع هذه الأمور بعين الاعتبار، وإذا كان المرشح يسعى لتحقيق مكاسب شخصية من خلال البرلمان، فإن على المواطن أن يتحمل جزءاً من هذه المسؤولية من خلال السلوك التصويتي بحيث يدلي بصوته على أساس محددات سياسية أو ديمقراطية باختيار الأقدر على القيام بهذه المهمة، وترجمة آمال وتطلعات الناخبين، وليس على أساس محددات قرابية أو شخصية أو مصلحية ضيقة، وهذا من شأنه استعادة الثقة المفقودة بالمؤسسة البرلمانية، وهكذا تكون الانتخابات فرصة لإطلاق حوار وطني شامل وصريح ومباشر، يشارك فيه الجميع، ويتداولوا كافة هموم وقضايا الوطن والمواطن دون مجاملة أو مساومة على ثوابت الوطن، وبعيداً عن أي مزايدات، وإذا كان هذا الحوار هو طريقنا المنشود وخيارنا الوحيد في هذه المرحلة، فإن الحوار الذي يحقق غاياته وأهدافه يتبغي أن يشارك فيه من يؤمن بأن لا أحد يحتكر الحقيقة المطلقة، وأن الإيمان بالتنوع والاختلاف من أبسط متطلبات وشروط الحوار الديمقراطي، الذي يفضي في العادة إلى التوافق وليس الإجماع، وحذرت الورقة من الانفراد بالرأي أو القرار وسد الآفاق ومنافذ الأمل أمام التوافق، لأن هذا سيؤدي إلى تراجع المسيرة الديمقراطية وربما الأخطر من ذلك التأسيس لثقافة الإقصاء والتهميش والاستبداد وربما تكريس التطرف والعنف.
الجزء الثاني من الورقة تناول بالتحليل العميق 4 قضايا رئيسية تمثل خريطة طريق وبرنامج عمل لدعاة وأنصار الإصلاح والديمقراطية في البلاد، وهي:
أولاً: احترام الرأي الآخر المختلف، وهذا قبل أن يكون سلوك ديمقراطي، هو قيمة إنسانية وحضارية نبيلة، وتعكس نضج ديمقراطي وثقافة متسامحة تؤمن بالتعدد والتنوع والاختلاف، وتؤكد وقائع الأحداث في الفكر العربي أن الأحادية سواء كانت الرأي الواحد أو الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد، هي من جلبت لنا الكوارث والنكبات، وهذه من بقايا الفكر الشمولي والاستبدادي، وهي تؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى أنصار وأعداء وموالاة ومعارضة، وبالتالي زيادة حدة الاستقطاب في المجتمع وزرع بذور الشقاق الذي ربما يتطور لاحقاً إلى صراعات ونزاعات يخسر فيها الجميع، والتاريخ الحديث لشعوب المنطقة خير شاهد على ذلك ولا يستع المجال لذكر الأمثلة في هذه العجالة لإثبات صحة هذه الحقائق.
ثانياً: المواطنة المسؤولة، وتكمن قيمة هذه الفكرة بأنه تاريخياً كان ميلاد الديمقراطية مرتبطاُ بفكرة المواطنة، وفي مرحلة لاحقة لعبت المواطنة دوراً حيوياً في نشوء وتشكيل المجتمعات الديمقراطية، والورقة النقاشية أكدت على أن المواطنة البناءة مواطنة مشاركة دائماً، وهذه المشاركة هي شرط تقدم المجتمع ونجاحه في تعزيز الديمقراطية. فهي قيمة وسلوك يتمثلان بضرورة المشاركة في الحياة العامة. ولا شك أن قيم وسوكيات المواطنة تتجذر بتطور المجتمعات ووعيها وإيمانها بدورها وحقوقها وواجباتها.
ووفق رؤية الملك فإن هذه المشاركة ليست موسمية بمعنى أنها ليست مرتبطة بالعملية الانتخابية بحيث تختزل بالإدلاء بصوت الناخب في يوم الانتخاب وكفى، وإنما هي عملية مستمرة متواصلة، والانتخابات هي محطة من محطاتها،والمواطنة المسؤولة تقتضي أن يبادر المواطن في تقديم رؤيته وأفكاره وحلوله المقترحة لهموم ومشاكل البلاد والعباد في كافة المناسبات وعلى كافة المنابر. وهنا يبرز دور الإعلام المهني المسؤول في إثارة القضايا المجتمعية وتسليط الضوء عليها، ولا سيما القضايا الحياتية للناس مثل الماء والبيئة وحوادث السير وغيرها.
ثالثاً: التنوع والاختلاف في المجتمع، فالتعدد في المجتمع هو عنصر قوة وليس عنصر ضعف في المجتمعات الواثقة بنفسها، والحوار هو الوسيلة الأمثل للتعامل مع واقع التنوع والاختلاف والوصول إلى الحلول الوسط أي التوافق، وهذا يتطلب أن تسود قيم التضحية والإيثار وتقديم الصالح العام على المصالح الخاصة والمؤقتة، ونبذ كافة أشكال التطرف والعنف سواء كان مادياً أم معنوياً.
إن التعددية تفرز نوع من الانقسام والتنافس وعدم الانسجام في المجتمع الواحد، ولكن المجتمع الحديث هو الذي يحافظ على الوحدة والتماسك والانسجام في الدولة في إطار التنوع والاختلاف. ولا شك أن الحوار وسيادة القانون والعدالة والثقافة المدنية والاتفاق على قواعد اللعبة السياسية هي الطريق التي سلكها الكثير من شعوب العالم التي تعاني من تعددية عرقية ولغوية ودينية وغيرها ونجحت في تعزيز الوحدة الوطنية وتثبيت دعائم النظام الديمقراطي.
رابعاً: العملية الديمقراطية ليست لعبة صفرية فما يكسبه فريق لا يمثل خسارة للفريق الآخر، لأن الجميع يكسب من المشاركة في العلمية الديمقراطية، وهكذا نجد أنه من مصلحة جميع الأطراف المشاركة في هذه العملية والقبول بنتائجها لأنها السبيل الأقصر والضمانة الأكيدة لتنمية المجتمع ومواجهة كافة التحديات التي تواجهه.
وهذا يستلزم تطوير قدرة النظام والمجتمع على حد سواء، على التكييف مع الظروف والمستجدات لا بل أن هذا هو جوهر عملية الإصلاح السياسي الذي هو باختصار قدرة النظام السياسي على التكييف مع إيقاع التغيرات الداخلية والإقليمية والخارجية، وكذلك الشعوب المتحضرة هي التي تستطيع تكييف نفسها لمواكبة التطورات والاستمرار في مسيرة البناء والتقدم والانجاز، وبالمجمل فإن من لا يتطور يندثر ويفنى.
القسم الأخير من الورقة تناول المعيار في الحكم على سلامة النهج والمسيرة في مرحلة الانتخابات وما بعدها، أي أن تتم عملية مراجعة وتقييم لما تحقق وحتى نتأكد بأننا نسير في الاتجاه الصحيح فإن هذا يستلزم أن نحقق جملة من الأهداف لعل أبرزها التأكيد على الاعتزاز بكافة الانجازات التي تحققت في كافة المجالات والسعي إلى تعظيمها ومراكمتها والبناء عليها بدلاً من الشكوى والانتقاد وجلد الذات والتشكيك بالمسيرة، فالثقة بالنفس وبما تحقق هي الحافز نحو السعي إلى تحقيق المزيد والعبور إلى المستقبل وبالتالي الانتقال من حال إلى حال أفضل.
وهكذا يمكن القول أن جوهر هذه الورقة يؤكد على ترسيخ قيم وسلوكيات الديمقراطية وإعادة صياغة هويتنا الوطنية الجامعة على أساس قيم المواطنة. إن هذه مسؤولية تقع علي عاتق الدولة والمجتمع معاً ولا سيما أن مصلحة الطرفين تقتضي تعزيز قيم وسلوكيات المواطنة، ذلك أنها السبيل الأقصر والضمانة الأكيدة لتنمية المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعلاوة علي ذلك إدارة أوجه الاختلاف فيه وفق قواعد اللعبة الديمقراطية وأيضاً مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بواسطة جبهة وطنية واحدة.
وختاماً يمكن القول ان جوهر فكرة المواطنة هو المشاركة والمبادرة والتفاعل مع الواقع وهنا فإن للمثقفين دوراً هاماً في هذا السياق، إذ لا يجوز للمثقف أن يصمت أو يغيب أو يُغيب ولا سيما حينما يتعلق الأمر بقضايا الوطن أو المواطنة أو المسائل التي تثير اهتمام الرأي العام، ولا شك أن المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني وعلي رأسها الأحزاب السياسية هي الخطوة الأولي في هذا المجال ذلك ان الأحزاب السياسية هي عماد الديمقراطية لا بل إن العداء للأحزاب السياسية هو عداء مبطن للديمقراطية، نأمل أن تبقي هذه الأفكار حية في الذهن، دافعة إلي انجاز هذا العمل العظيم من أجل تطوير وتحديث وتجديد الدولة الأردنية من أجل غد أفضل وأردن أفضل للجميع. وهذا يستلزم ترجمة الورقة الملكية إلى ممارسات عملية وواقع محسوس والعمل على التعاون المثمر على كافة المستويات لدعم منظومة الحكم الصالح، وتأكيد قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص من أجل إقامة دولة القانون والمؤسسات ومجتمع المواطنة والعدالة والمساواة، والحفاظ على الامن والاستقرار. نأمل ذلك.