في التاريخ غير البعيد عن الذاكرة العامة لما مرت به أمتنا العربية منذ أربعينيات القرن الماضي من دوامة الانقلابات العسكرية في حركة التغيير السياسي المغلف بقوى العسكريتاريا في سوريا ومصروالعراق واليمن وموريتانيا,التي حملت صفة الثورة على النظم القائمة وتحت مسميات التغيير والتحرر,كانت الثورات القومية التي تبناها عبد الناصرلينقل مصرمن طوق المستعمر البريطاني ونير حكم ملكية لم تملك قرارها السياسي إلى دولة مهابة أخذت موقعها الطبيعي في المنطقة كدولة قومية تحررية ريادية سمت بالشعب المصري إلى مستويات الترقي الفني والثقافي والعلمي والأدبي ومدارسها ومرجعياتها,وأيقظت مشاعر الكرامة للمحرومين والفقراء,واشعلت حماس الفلاحين والصناعيين, وأسست بنى الدولة الحديثة بإنجازات تنموية وتربوية تدين لها مختلف فئات الشعب المصري بالعرفان والامتنان والتحسر على تلك الأيام التي تجاسرت عليها قوى الإمبريالية والقوى الرجعية وتصدت لنهوضها ونجحت في إلحاق النكسات العسكرية الخارجية والسياسية الداخلية التي بدأت بنظام السادات المتلونة والبهلوانية ونظام مبارك البليد والفاسد والمسكون بالتوريث الذي ذهبت به رياح ثورة شعبية فجرها التيار الشبابي وقوى التقدم والمعاصرة,فآلت بها الظروف إلى نظام قوى الإسلام السياسي المترنح فكريا فذهب بالاستقراروالأمن وأحدث الانقسام في مكونات الشعب المصري,وأدى بخداعه السياسي إلى إحداث شرخ في ثقة الناس به يصعب التئام أطرافه بما شكل صدمة للسرعة التي أدت إلى تحويل مسار الثورة عن أهدافها الشعبية إلى أطماع فئوية مكشوفة,ولكنها لم تكن تحولات مفاجئة على الإطلاق.
كانت ثورة عبد الناصر بعد أن تحولت من انقلاب عسكري إلى منجز ثوري لتبنيه المبادئ القومية التي هي محور الصيغ التحررية من القوى الاستعمارية, والمحرض على التصدي لقوى الرجعية والفكرعابر منطق التاريخ ومتجاوز حدود الوطنية,تحظى بتأييد شعبي مصري لم يحدث له مثيل حتى اللحظة,مع ما يمثله ذلك من حماية تلقائية للثورة,لم تكن هناك حاجة إلى ما يسمى بروابط حماية الثورة أو جمعياتها ,وتفاعل شعبي عربي مماثل ومواز لمصداقية التأييد التي أبداها الشعب المصري تجاوبا مع فكرمستنير وإنجازات غير مسبوقة في خدمة فئات الشعب من الفقراء والعمال والفلاحين,وساهمت في نجاح الانقلابات العسكرية التحرري في الدول العربية في العراق وفي اليمن وفي سوريا.
ومثلها جاءت الانقلابات العسكرية لتولي السلطة التي سرعان ما تحولت إلى المناهج الثورية,حيث كانت مثل هذه التدخلات للقوات المسلحة تمثل عملا مألوفا متماهيا في ذلك الوقت مع مبررات التغيير السياسي والتحرري,وأكدت مناهجها الثورية بتأكيد حرية قرارها السياسي وامتلاك حقها في قرارها الاقتصادي في كل من اليمن و سوريا والعراق.ومثل هذه النظم معادية بطبيعة مبادئ أعضائها الأيدولوجية,أوفت بتعهداتها الوطنية في مواجهة قوى الاحتلال وسياسات الامبريالية والقوى الرجعية التي لم تجد حرجا في التعاون مع قوى أجنبية ضد بلادها وضد مصالح أوطانها,دعمتها أنظمة عربية موغلة في ربط قرارها السياسي وثرواتها الاقتصادية واستقلالها الوطني بالغرب وبأميركا,والتخلي عن مساحات من أراضيها ومياهها لتوطين القواعد العسكرية الأميركية,وإعلانها غيرالمكتوب مستوطنات مستقلة بقرارها العسكري وحرية حركة أفرادها وتحريك أسلحتها ومعداتهاكيفما شاءت وتحصين أفرادها من العقاب على ما يرتبكوه من جرائم فساد أو جرائم أخلاقية.
الثورات التي سلمت أمر حمايتها لقوى حزبية مسلحة,وتغافلت عن أهمية حماية القوى الشعبية المتنورة وضرورتها لها ولبرامجها وأهدافها,أكلت تلك الثورات نفسها بنفسها وسرعان ما فشلت كما في تجربة حزب البعث في العراق عندما اعتمدت على حماية الحرس القومي من أعضائه ومناصريه,فاستدرك هذا الجطأ القاتل في ثورته فيما بعد.
مدرسة التاريخ ليست مدرسة اختيارية لمن يريد أن يساهم في منهج سياسي وحراكي عام في مرحلة من تاريخ شعب أو جماعة.والتعلم من التجربة التاريخية مرحلة تعلم إلزامية لا خيار في التهرب منها أو القفزعلى مناهجها,ولو ظنالبعض ,دون جدوى, إن حركتهم مباركة من السماء فهي إذن متمكنة من توجيه مسار التاريخ,وتغيير محاور سيره إلى اتجاهات تظن واهمة إنه يحقق مصالها.
الثورة الشعبية التي لم تأت على منوال الانقلابات العسكرية التي تتولى قياداتها الوطنية تحويل مناهجه الانقلابية إلى منجزات ثورية بالمعنى المقصود,إذا لم يحمها الشعب بقواه وفئاته التي ساهمت بها وأجزتها بتضحيات جدية وبإصرار نهضوي وتقدمي,فإنها ستنكسر إرادتها على الاستمرار,وستتخبط في أضيق المجالات وأعقدها.الاستحواذ,والتردد,والتراجع عن قرارات هامة,والتضليل, والافتراء,والارتباك, والتشنج,والتنصل من الأخطاء بسذاجة التبريرمن أبرز علامات الانحراف عن المنهج الطبيعي للتحولات الثورية, وتعبيرعن أطماع دفينة بالسلطة مغلفة بشعارات التطور والتجديد.
الديمقراطية والسلوك الديمقراطي,مصطلحات دينامية فائقة الشفافية واضحة والمعالم بحيث لن يتمكن أكثر الناس دهاء وأشدهم مكرا,وألمع تلاميذ التبريروالافتراء,أن ينال منها وأن يتحايل بها على الوعي التقليدي بمراسمها ومناهجها التي تتناغم بأرق الألحان وأعذبها مع الحقوق الطبيعية للإنسان,وتشدونشيد المؤتلفين التحابين الصادقين بمبادئها وقيها التي تتطلع إليها كل نفس بشرية.
في مصر يحصن الرئيس (الديمقراطي ) قراراته,ويطلب تدخل الجيش ضد الشعب,ويتراجع عن قرارات هنا وهناك بارتباك الواقف في برميل ومطلوب منه أن يجلس في إحدى زواياه !لم يبرر بعد الطلب من جماعته وحزبه للتصدي إلى قوى المعارضة الثورية واعتقالهم وتأديبهم,وإثارة الرعب في المجتمع المصري,ربما لأنه لم تبلله المياه الساخنة التي سكبتها ربات البيوت على أنصاره وأزلامه لمواجهة إرهابهم للناس,ولم ينظر بعد في معناها المعبر عن الموقف الحقيقي لقوى الشعب في الميادين وفي المنازل!.
في تونس,الأمر تعدى تحريض المؤيدين على المعارضة الوطنية إلى تشكيل (رابطة حماية الثورة ) التي يصفها الأستاذ راشد الغنوشي بقوله (نقلته جريدة الرأي 11122012): رابطة حماية الثورة منتوج من منتجات حماية الثورة,وإنهم مستقلون.وهذا الوصف للرابطة دحضه مثقفون تونسيون ورفضوه.والمفاجئ في وصف الأستاذ الغنوشي هذا,إنه لا يلتقي مع أي عنوان من عناوين أحاديثه قبل الثورة عن الديمقراطية والتعددية !!ودور الشعب في تقرير مصيره!!.
قوى الشعب المؤمن بالثورة كمنهج تغيير وتطورالقوة القادرة والفاعلة التي تحمي ثورتها وتمدها بطاقة الاستمرار,أما الاستقواء بقوى فئوية مستفيدة ومتحزبة لضرب القوى الوطنية والثورية وإخافتها وإرهاب تياراتها,ما هو إلا تنكر للثورة وتنصل من المسؤليات الثورية للرضوخ إلى المسؤوليات الحزبية الضيقة في زمن الحرية والتعددية والديمقراطية.