قالوا لي بان النظام في الغابة يسير على احسن وجه ، وان الامن بها مستتب ، وان دخل الفرد فيها متناسب مع حاجاته ، وان نظام الحكم فيها متفق عليه من الجميع شكلا وموضوعا ، الفرق الوحيد بين الوضع في الغابة والوضع الانساني انه لا توجد في الغابة مشاريع تنموية ولا تصورات مستقبلية ، ولا اختلافات سياسية ولا طموحات من اية طائفة او قبيلة للوصول الى سدة الحكم ، كل الامور تمشي فيها بنفس النسق الاصلي الذي كانت عليه منذ وجدت .
ادهشني ذلك الوضع ، فالكائنات التي تعيش في الغابة لا تعقل ، وهذا ادعى الى ان تتزاحم حول مصادر لقمة العيش ، فان بعضها لديه من القوة ما يكفيه بان يبطش بالجميع ويبقى وحده صاحب الحق في استعمال كل خيرات الغابة لصالحة ، او ان تسخر مجموعة مجموعة اخرى لخدمتها من دون ادنى تخوف من سلطة او حتى انقلاب ، فقلت في نفسي اود ان افهم الامر عن قرب واتعلم كيفية تبنيه انسانيا والحفاظ عليه ، ولا اجد وسيلة لذلك الا من خلال الدخول للغابة والعيش فيها ما استطعت ولاطلع على كل الوسائل والطرق التي تحكم الغابة وقد استنبط منها افكار تلهمني حين اعود ، ان عدت ، لكي انشرها بين ابناء بلدي لتحسين وضع معيشتنا ، وما ادراك ؟ السنا نستورد افكارا واراء من كل حدب وصوب لنعيش ونعتاش بها ؟ السنا منقسمون على انفسنا حين تطرح مفاهيم الحياة في شارعنا بين مطالب بالنمط الاروبي او الامريكي او الشرقي في ادارة شؤوننا العامة وادارة مواردنا وتوزيع ثرواتنا وتقاسم لقمة العيش بين عشائرنا؟
توكلت على الله ، ومن اجل ان ادخل للغابة واخرج منها بعد اتمتم المهمة بدأت ابحث في كتبي عن ممالك الحيوانات واساليب تعاملها مع احتياجاتها واساليب حماية نفسها عند التصادم او في الازمات ، واستشرت الكثيرين ممن لديهم اطلاع او بعض اطلاع على حياة الكائنات الاخرى حتى الذين يربون العصافير في اقفاص للاستمتاع باصواتها او لبيعها للراغبين في ذلك النوع من المتعة ، فرايت ان من احسن الخيارات ان اقلد القنفذ ، وصممت لباس قنفذ مناسب لحجمي ، وكنت قد استعنت بالفكرة التي قدمها لي جاري المتقاعد من الخدمة العامة ، حين اشار علي بلباس القنفذ ، ولما ناقشت الفكرة معه لماذا القنفذ ؟ افهمني بان القنفذ حيوان محمي طبيعيا من ان يعتدي عليه احد ، بالرغم من ضعفه وقلة حيلته الا ان شكله يوحي بالقوة ومنظره يخيف الحيوانات القاتلة وان احتياجاته في الحياة قليلة فهو لا يزاحم كثيرا وبالتالي لا يعرض نفسه للتهلكة وهو بذلك يشبه الى حد كبير وبشكل عام جماعتنا ، فقلت في نفسي ان لجاري خبرة كبيرة من خلال سنوات عمله الطويلة وتعامله مع الجمهور في مواقع مختلفة وبالتالي فان موضوع القنفذ لديه واضح وفكرته مقبولة وبالتالي فساسمع وجهة نظره والبس لباس القنفذ .
دخلت للخابة على انني مواطن قنفذ ، وتجولت سريعا للتعرف على الارض امامي ولاختار موقع اعيش فية لاتم رسالتي البحثية التي جئت من اجلها ، ويا للعجب .. منذ اللحظة الاولى لدخولي الغابة لاحظت ان الكثير من القنافذ تتنطنط حولي وتمشي خلفي اينما اتجهت ، واحسست بانها تمارس فرحا في سيرها ونطنطتها ، ولما تمعنت في تصرفها هذا تخيلت ان قنافذ الغابة رأت في شخصي قنفذا مهيبا يمكنه ان يكون عليها زعيما تمشي في ظله ، وتتحدى به مملكة الفئران التي تكون احيانا مزعجة من خلال سرقة اليافعين منها لبعض القوت الذي تجمعه القنافذ ، ولكني قلت في نفسي لعل الموضوع مجرد انبساط وانبهار بقنفذ كبير الحجم لكنه في النهاية قنفذ يأكل الحشائش ودود الارض ومحمي بانتمائه لقبيلة القنافذ وليس لقوته او حنكته .
فالكائنات كلها بما فيها القنافذ ترضى بغالبيتها ان تعيش في ظل كبير يحميها ويتحمل مسؤولية ايجاد احتياجاتها وتوفير متطلبات حياتها حتى لو كانت متعددة ومتقلبة ، وهي مقابل ذلك تدين له بالولاء وبالسمع والطاعة وتدفع له الضريبة المناسبة التي يفرضها عليها ، ومع ذلك فهناك دائما قلة من الافراد مفتونة بالسلطة تحاول دائما التصدي للحاكم وتحاول دائما ان تثبت انه غير مؤهل وغير جدير وان لديها هي الحل المناسب بل الافضل ، وقد تستخدم الدحلبة والسحر والشعوذة للوصول لكرسي الحكم او قد تستخدم ابناء العمومة وافراد الطائفة او تستأجر البلطجية للقيام بالانقلاب او الاغتيال او اي عمل يبعد المسؤول عن موقعة لتحتله هي ، وعندما تجد نفسها في المكان الذي فعلت من اجله الافاعيل تجد نفسها عاجزة عن تحقيق اي شيء لان النظام بشكل عام وعلى سبيل المثال نظام الغابة اعقد من المشهد البسيط الذي تراه امامها كل يوم ، هي تعتقد ان السلطة تعني ان يكون هناك من ياتيها بالافطار كل يوم على السرير بلا عناء منها ، وان هناك من يحيط بيتها للحماية ليلا نهارا ، وانها تاخذ ما تريد وتفعل ما تريد وتأمر وتنهى بلا منازع والمحيطون بها يزينون لها اي فعل واي تصرف بل ربما يصفقون لها بعد كل تصرف حتى لو كان رفع الرجل لقضاء الحاجة.
لكن النظام ونظام الغابة مثال له كجبل الثلج لا يرى الناظر اليه اكثر من قمته اما البقية الباقية والجزء الاكبر والاعظم فهو مختفي تحت الماء ويحتاج الى غواص غاية في المهارة ليراه ويحيط بمحتواه .
ونحن نمارس نفس الشيء في عالم الانسان فكم من مواطن يطرح نفسه بشكل جذاب فننتخبه في البرلمان وينتهي به المطاف في واد غير وادينا وانه مثلنا يصحو مبسوطا او متنكدا ويذهب لعمله وفي راسه تصور بانه سيناقش اليوم مشروعا بعينه الا انه يتفاجا بان عليه مواجهة مناقشة مشروع اخر ، وتمر السنين وهو على هذا الحال ويخرج كما دخل مواطن مثل بقية الناس يعيش بهم مثل همهم ويعاني نفس معاناتهم ويشرب في نفس الكاس الذي يشربون منه.
تجولت في الغابة ومررت بكثير من الجحور والاعشاش ، ولفت انتباهي ان كل حيوان فردا كان ام قطيع يعيش في تجمع يخلو من اي نوع اخر من الحيوانات الا ما ندر وله اسلوب حياة تميزه تماما عن غيره والكل يمارس الحياة بكل جدية ونشاط وبلا تناطح ولا تزاحم الا ما ندر وبعدد محدود جدا من المخالفات قليلة التاثير في مجمل المسيرة يتم التعامل معها في اضيق الحدود ، ذكرني ذلك بالمجتمع القروي او المجتمع القبلي والمجتمع المدني ، ففي المجتمع القروي تكون الحياة اهدأ واخف كلفة اما المجتمع المدني فهو شديد التعقيد عالي الكلفة ، وبالتالي فمن اراد ان يتصدى لاي نظام فعليه ان يفهم بان المطلوب منه ان يحقق في المجتمع المدني ما تحققه الانظمة التي تحكم المجتمع القبلي او القروي من حيث السلاسة وقلة التكاليف على الاقل.
وتستمر الحياه ، فالنمل مثلا يعيش في تجمع نملي خالص ، له مسؤول واحد والباقي مشغول في الاكل وتجميع الاكل وتخزينه للايام الصعبة ، ترى افراد النمل عندما يمشون ينتظمون ولا يتسابقون ويحمل كل واحد منهم من الغذاء ما يزيد عن وزنه ولا يهمه ان حمل احدهم كمية اقل ، سبحان الله كانه يفهم الاية الكريمة ( لا يكلف الله نفسا الا وسعها ) والبعض القليل معفي من بعض النشاطات لانه يقوم بخدمة المسؤول واطعامة ومساعدته في الانجاب ثم يموت وبالتالي فهو وبالرغم من سمو منزلته في التجمع النملي الى حد ما الا انه يدفع ثمن هذا التفوق غاليا بموته السريع . والثعالب تلتقي في وقت محدد في بيت احدهم وكانهم في اجتماع مبرمج ثم يتفرقون في اتجاهات مختلفة ،كل يسير في حاله ، وان تصادف ان التقي ثعلبان او اكثر فسرعان ما تراهم ينتظمون في ادارة عجيبة حيث يتولى احدهم القيادة ويسير البقية خلفه وبمشورته وكانهم يفهمون الحديث الشريف ( ان كنتم ثلاثة فامروا احدكم ) ، واظن ان لديهم معايير صارمة يفهمها ويطبقها كل الافراد بنفس الكيفية وبنفس النهم فلا انتخابات ولا تسويف ولا مضيعة للوقت ، كل المطلوب هو ايجاد معايير وفهمها وتطبيقها من الجميع ، والمعايير التي من هذا النوع والتي يرضى عنها الجميع لا تاتي من فراغ ولا حتى من نفوذ ، انها القوة الناعمة التي تقف خلف كل نظام قوي ومفهوم ويعتنقه الافراد بالمحبة والالفة .
ومن الملاحظات التي شاهدتها عند كل الحيوانات في الغابة وبدون استثناء انها لا تأكل اكثر من حاجتها ابدا ولا تاكل الا ما يناسب تكوينها وجسمها ولذلك فاني اظن انها لا تعاني لا من مرض السكري ولا من الضغط والله اعلم ، وان زاد عندها طعام فهي تخزنه للايام التالية او تدعوا اليه ضيوفا من فصائل اخرى ، وهي ترد الماء لتشرب ولا تستحوذ عليه وان كانت من اكلات العشب فانها حينما تأكل يجاورها حيوان اخر يأكل مثلها ولا تتنازع المكان ن وهي بذلك تتطبق نظام للتعايش مريح وكافي للجميع ، مرة اخرى تذكرت الحديث الشريف الذي يعتبر اساسا لاي نظام سياسي والذي يقول ( الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار).
لكن اعجب مشاهداتي كانت في امر الزعامة ، وكنت اعلم قبل دخولي للغابة ان الزعامة هي في يد الاسد ، وهي زعامة مقبولة من الجميع ومتوارثة حيث ليس بالغابة ما يسمى ديمقراطية وتداول للسلطة ، وابتسمت حين تذكرت مصطلح تداول السلطة الذي ينادي به البعض عندنا في عالم الانسان ، اذ حاولت ان اتخيل بان الحاكم في الغابة يوما ما سيكون الفأر !!!
الاسد قوي وعظيم المنظر وصاحب هيبة ، يفرض زعامته بقوة وبحنكه ، ولانه يعلم ان لا منازع له ، فهو هاديء شامخ متكبر ، لا يقتل ليأكل بل تأتي له بالطعام زوجته التي تقبل خدمته طوعا وحبا كيف لا وهي زوجة الاسد ، وهو عندما يتكلم - يزأر – فانه لا يطالب بشيء غير اعلام الرعية بانهم في امان لانه موجود وعلى الجميع القيام بالواجب الملقى على عاتقه والذي تقبله اصلا طوعا وحبا ، يذكرهم فقط ولا يجبرهم لانهم كلهم يفهمون معنى التكليف ن هذا المفهوم الذي يلقنه الكبار للصغار من خلال التعليم والممارسة والتدريب ، وهم يتلقون المفهوم بنهم وعشق لانهم يعلمون بان الكبير الذي يعلمهم المبدأ هو كائن صادق بالسليقة ومؤمن بالسليقة فلا حياة في الغابة لغير المؤمن ولغير الصادق بالرغم من التنازع احيانا والتحايل على الفريسة احيانا اخرى لكن الكبير المكلف صادق وكانهم يتبعون المبدا الذي رسخه الرسول الاعظم بان المؤمن لا يكذب حتى بالرغم من انه قد يمارس مخالفات اخرى .
ويطول الحديث عن النظام في الغابة وللحديث تكملة ، الا ان ملخص ما سبق يكمن في ان الاصل ان يكون هناك نظام نوان هذا النظام لا بد ان يكون واسع ليغطي كل تكاليف الحياه ، وكامل لا يخضع للاجتهادات ، وواضح ومفهوم ومقبول من كل افراد المجتمع ، مدروس بعناية فائقة حتى لا يسمح بالتضارب او التناقض عند تطبيقه من كافة افراد المجتمع على اختلاف مشاربهم ، قابل للتطبيق بنفس الكفاءة ان تغيرت الاوضاع والظروف ، وان الفرد في المجتمع سيد كامل السيادة في الدائرة التي يعيش فيها ضاقت ام اتسعت ، وان الجميع في ظل النظام متجهون لوجهة واحدة وهي سعادة المجتمع ورفاهيته .
وهنا لا بد من الاشارة الى اهم الفروقات بين المجتمع الانساني ومجتمع الغابة ، ان المجتمع الانساني ان اراد ان يسعد بنظام شبيه بما تسعد به بقية الكائنات في الغابة عليه ان يمارس مفهوم العطاء قبل مفهوم الاستحواذ والذي كان واضحا تماما في النظام السماوي الذي اتى به الرسول الاعظم وهو مفهوم الايثار. .. وللموضوع بقية...