على الرغم من دورمصر الريادي والإبداعي في الفنون بكافة أشكالها والثقافة المتنوعة من مختلف مصادرها والفكرالمتنورفي القضايا الأدبية وميادين العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ,إلا إنها,وهو أمر مستغرب,لم تقدم تجربة ديمقراطية في نظمها السياسية,حتى الوطنية المخلصة منها بمختلف مراحلها قديمها(اختلفت ظروفها في الخمسينيات عن الزمن الحالي) وحديثها يمكن لنا أن نستقي منها تجربة نحاكم بها تاريخها السياسي,على الرغم من مستوى لا بأس به من بعض الحريات أتاحتهاالنظم للمعارضين وكانت بطبيعة الحال أضيق بكثير من مساحات السجون والمعتقلات التي قضى المعارضون فيها ردحا طويلا من الزمن, في التعبيرعن قضايا داخلية وبعض السياسات الخارجية, وفي إبداء الرأي المقيد بعدم المساس (بالسلطان) من قريب أو بعيد,فانتشرت شائعة أنْ لا مشكلة (بالسلطان) أو معه ,إنما المشكلة قابعة في بطانته وأعوانه والمقربين منه,وهي شائعة تظهر مدى النفاق الذي تلذذ السلطان بسماعه,وجنى بعض المنافقين ثماره في التكسب من السلطة(عهد السادات –الرئيس المؤمن).
ولم تكن أي دولة عربية بأفضل حال ديمقراطي من مصر,وإن تمتعت بيروت بمستوى واسع من الحريات االمقيدة حزبيا فالحرية في جوهرها قيمة فردية وليست جماعية,والممارسة الديمقراطية المختصة بالقسمة الطائفية التي تختلف أيما اختلاف عن القسمة التعددية الديمقراطية التحديثية.
دول (الربيع العربي) بعد استيلاء أحزاب الإخوان المسلمين والتيارات السلفية وأحزابها على السلطة فيها,تنكروا بكل بساطة للديمقراطية وقيمها,بعد أن خدمتهم الانتخابات التي تعتبر ممارسة ديمقراطية وإنْ اختلت نزاهة هذه الممارسة في مصر بشكل خاص بالترهيب الفكري بين الجنة والنار,واستغلال حاجة الفقراء وبساطتهم,وهو أمر لا يفاجئ أحدا على الإطلاق,لأن منهج هذه القوى يصب في قوالب الثيوقراطية بكل بساطة الطرح وسذاجة الفكرة في هذا الزمن.وكانت الاجماعات السلفية أكثر مصداقية مع مبادئها معلنة بصراحة إن الديمقراطية ليست من الإسلام وبعضها كفّرالمبادئ الديمقراطية وإنْ لم يعلم شيئا عن قيمها التي لا يمكن أن تتعارض مع الحقوق الإنسانية التي ترعاها الأديان السماوية منها والوضعية.ولكن ما يثير الدهشة والاستغراب في تفسيرالقيم الديمقراطية المرتبك الذي يتناوله مفكرو الجماعة وفلاسفة حزب الحرية والعدالة في المنتديات التلفزيونية وحواراتها وذلك باعتبار قاعدة الأغلبية – الأقلية وكأنها من القواعد الراسخة في الديمقراطية في حين إن الفكر الديمقراطي قد نبذ هذه القاعدة منذ زمن طويل , وأخذها البعض موضوعة لأشد أنواع نقد الديمقراطية التقليدية المستندة إلى هذه القاعدة,على اعتبار إنها تقود إلى دكتاتورية الجماعة الأكثر سوءاوالأشد خطرا على الحقوق والحريات من دكتاتورية الفرد التي ترفضها القيم الديمقراطية وتتحدى في الأصل وجودها.
مكمن القيم الديمقراطية التي يتبناها الديمقراطيون في الدول المتقدمة بحكم ديمقراطي,تنفصل فيه السلطات فصلا تاما بسيادتها القانونية وبدورها المنوط بها هو في التشريعات وفي القوانين وفي مجال القرارات التي تتخذها السلطة الحاكمة, التي لا تتجاوز واجباتها إعمال القانون بدقة وحيادية,ترقية الخدمات التعليمية والصحية,صون الحريات والمحافظة على حقوق المواطنين كل مواطن دون تمييز,والدفاع عن الوطن ضد أي عدوان والحفاظ على حدوده واستقلال إرادته الحرة من التدخل الأجنبي .ولا يتم في الديمقراطية إصدارأي تشريع إلا بالتوافق,فكيف بالدستور؟؟ كي يحافظ على كل حق وكل حرية من حقوق وحريات كل مكون من مكونات المجتمع الثقافية والتراثية والدينية والقومية والإثنية واللغوية,التعددية بواقعها ونشأتها.هذه القيم والمفاهيم الديمقراطية مضى على العمل بها أكثرمن قرنين من الزمن في دول الديمقراطية,وتعج المكتبات والمراجع العلمية والتحليلات المهنية والدراسات السياسية والاجتماعية بالمعلومات والمعارف حول الديمقراطية وقيمها,الميسورالوصول إليها بسرعة وبساطة,تنقل التجارب الإنسانية بالتفصيل بوضوح وسهولة.
اندثرمصطلح الأقلية – الأكثرية ولم يعد يستعمل بأي معنى له أي قيمة ديمقراطية.وفي الانتخابات الحرة والنزيهة يفوزمن يحصل على أعلى الأصوات,وليس على أغلبية الأصوات ,لأن المصوتين هم أفراد بانتماءات لا يسهل حصرها وتصنيف اتجاهاتها السياسية,إذ عادة ما تشكل المجموعات التي توصف مجازا بالأغلبية الصامتة الحجم الأعظم من الشعب في معظم البلاد الديمقراطية,فما بالنا بدول تتمسح بالديمقراطية لأهداف تخلو من أي معنى لها,هذا من ناحية ,من ناحية ثانية في الحدود التي يستخدم بها مصطلح الأقلية – الأغلبية في عمليات التصويت على قرارات تتعلق بإجراءات إدارية وليست تشريعية ,أي لا تتعلق بالحقوق والحريات الطبيعية والأساسية للمواطن الفرد ولمكونات المجتمع المتعددة التي تصونها عادة الدساتيرالمتحضرة,وهو في هذه الحالة مصطلح يعبر عن حالة متبدلة تتغير أطرافه حسب طبيعة القرارونوعه ,أي إنها ليست حالة متجانسة العناصر والمواقف.
بنظرة سطحية وسريعة على الإعلان الدستوري الي اتخذه الرئيس المصري محمد مرسي بتاريخ 22112012,الذي حصن فيه الإعلانات الدستورية والقرارات والقوانين التي أصدرها وجعلها غير قابلة للطعن بأي طريق وأمام أي جهة,ومنع خلالها أي جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور0000ضاربا عرض الحائط بدور القضاء واستقلاله ,بل ساهم كرئيس دولة في اتهام المحكمة الدستورية بتسريب أحكامها مسبقا.مثل هذا الإعلان كيف يصنف في أدبيات الديمقراطية وقيمها أم في قمة الدكتاتورية ومرجعياتها التاريخية التي تفوقت في حدتها ما صنعه هتلرالمنتخب ديمقراطيا بنزاهة, كما يحلو للسيد مرسي تذكير سامعيه من أنصاره ومن معارضيه بأنه رئيس منتخب!من (الشعب) المعتصم في ميدان التحرير مطالبا بإلغاء الإعلان الدستوري الذي يتهمهم أنصاره هكذا دون تردد بأنهم فلول وبلطجية وبعض الثوار!.
تحول هتلر إلى دكتاتور في ثلاثينيات القرن الماضي,بدافع تراءى له فيه الصواب من أجل أخذ ثأر هزيمة ألمانيا والانتقام لكرامتها التي أذلتها القوى المنتصرة عليها في الحرب العالمية الأولى,فهب حزبه بتأييد الأسباب المؤججة للعواطف الوطنية,ومع ذلك فقد ارتكب باللجؤ إلى الأسلوب الدكتاتوري خطأ دفعت ألمانيا ثمنه استقلالها وسيادتها الوطنية حتى يومنا هذا.
هل أراد السيد مرسي أن يلغي اتفاقية كامب ديفيد المقيدة لسيادة مصر؟,وهل أراد الدعوة إلى الثأرمن صانعي الثغرة في حرب أكتوبر؟,هل أراد دعم الإخوة في غزة على تحرير فلسطين؟ فأيده حزبه ومحالفيه,وعارضه الوطنيون المصريون ومفجرو ثورة يناير والقضاء والفنانون والإعلاميون؟ .لو أراد أيا منها لذكرناه بأن القرارالدكتاتوري من الخطايا التاريخية المثبت خطؤها بالتجربة مهما كانت غاياته موغلة في المشاعر الوطنية. أما أن يحظى قراريعتبر مثال واضح على نية دكتاتورية عاتية تغتال المشاعر الوطنية جاءت في غيرموقعها,وتعثر أسلوبها وارتباك قواها القابعة خلفها,لأنها ضاقت ذرعا بعدالة غيرعدالة تسلطها وإعلاما غيرإعلام حكومتها,وقوى وطنية سبقت في وعيها لمستقبلها ومستقبل وطنها رغبة قديمة في السلطة تبدلت كل عناصرها ولم تتبدل عقليات راغبيها ووعيهم حيالها.لو أراد ذلك لما أشجتنا نعومة التصريحات الأميركية وعقلانيتها!! في التعبيرعما يجري في مصر!ومقارنته بموقفهم العدواني ودعم التفجيرات الإرهابية في المواطنين الآمنين كما يجري في سوريا,على سبيل المثال.
فإذا لم يكن هكذا قرارعنوانا معبرا بدقة عن دكتاتورية فظة,فكيف إذن تكون القرارات الدكتاتورية .وكيف يكون شكل الحكم ومرجعية النظام المصدر له 00؟؟!والعلاقة بين الدكتاتورية وبين الزمن تقاس أضرارها الجسيمة بالثانية وليس بالدقيقة أوالشهر والشهرين.ولو كان في كتاب غينيس مجال قياس مسمى أعتى تشريع دكتاتوري,فإن إعلان السيد مرسي سيحظى بصفحة سجل خاص به,أي بالإعلان,وهوالقائل في مقابلة مع التلفزيون المصري بتاريخ 29112012 نحن نتعلم,نتعلم كيف نكون أحرارا !!