ما أن يحدثنا شخص ما عن معنى الحرية إلا وأرفق عباراته بمفردات مثل : على أن ,ولكن ,ليست الحرية مطلقة ..ويكملون حديثهم بتعريف مبتدع للحرية الذي مفاده :إن الحرية أن تفعل ما تشاء شريطة عدم المساس بحرية الأخرين ( ولنتصور كيف يمكن التوفيق بين حريتي وحريات الأخرين المتشعبة الرغائب والمعتقدات والمختلفة المشارب متنوعة العادات والتقاليد,كثيرة الأمزجة المتبدلة بين ساعة وأخرى والآراء التي لاتنتهي عند حد السياسة,بل تتعدى ذلك إلى الدين والعرق والثقافة ...) ويقفون عند ذلك وكأن المساس بحرية الآخرين محكوم بتعريف الحرية وليس بالقوانين والتشريعات التي تضعهاالمجتمعات المؤمنة بالحرية لمحاسبة الخروج على السلوك الاجتماعي المتوافق عليه وعلى اللجؤ إلى حكم القانون في كل ما من شأنه أن يمثل مخالفة له, وليس في تعريف الحرية أو توصيفها أوالتنطع لشرح معناها, فأي اشتراط تلجأ إليه مقولاتنا عند توصيف أو تعريف الحرية يقع في خانة التناقض الذاتي في معنى العبارة وما تحمله من تمييز دقيق لما ترمي إليه من وضع المعرفة بالشيئ في موضعه الصحيح.
والاشتراط ذاك الذي يترافق مع محاولة تعريف الحرية يعبرعنثقافة أسيرة استسلمت في تبنيها من حاملها وفهمها على ما سمعه من هذا الطرف أو ذاك من المتحاورين,أو قرأه في جريدة أو مجلة مختارة لفكر مسبق التصميم والمصدر وتبنى هذا الفكرواستسلم لمفرداته.والثقافة الأسيرة بإطارها العام هي ثقافة يتحصل المرء عليها ويرددها دون أن يكون له حيالها أي مرجعية تمحيصية أو تدوينية يعزز من خلالها مصداقية ما يعلمه ودقة معانيه وتعدد المواقف من مضامينه العملية في المجتمع. حيث يعبر وضع الاشتراط في صياغة فهمه لمعنى الحرية عن فقدان القدرة على التمييزبين معنى الحرية كما هو وكما يصف المعنى الحرفي الدقيق لها, وبين القيود التي تُـفرض على الحرية نتيجة العادات والتقاليد الاجتماعية,أونتيجة النظرة الأبوية لبعض الفئات الطامحة إلى قيادة التيارات الاجتماعية والمنظومات السياسية وأحزابها العقائدية والشمولية ,أو السبل الاستبدادية التي تلجأ النظم الحاكمة غيرالديمقراطية لها,أو الحكمة من الحوار وتبادل الرأي واختلاف الاجتهاد حيال القضايا الفكرية والتنويرية.
المعنى الحرفي للحرية هي أن يفعل الفرد ما يشاء وقت يشاء أين يشاء.وهو بذلك يدرك بحسه الحر, بأن هذا الحق حق لكل فرد في المجتمع وليس حقه دون غيره,ولذلك يحذْر الفرد المساس بحرية فرد آخر ,أوالأفراد الأخرين,ليس لأن هناك شروطا وضعية في معنى الحرية تمنعه من الإساءة لفرد آخر,وإنما بوعيه الذي رسخته الحرية في إدراكه وعلمه بأن مثل هذا الحق في رد الإساءة بمثلها أو بما هو أشد منها,ملك للفردالآخر وحق من حقوقه,أي يتوقع الرد بالمثل على الإساءة أوعلى أي شكل من أشكال التدخل في شأن الآخرمن الطرف الثاني .وهكذا تحمل الحرية مناعة ذاتية في الحفاظ على صفتها المطلقة الفردية,وتمتلك قوة ذاتية رادعة تماما في تشابه مع قوة الردع النووي التي تمنع قيام حروب بين القوى النووية تستخدم هذه الأنواع من الأسلحة فيها,حيت تشكل قوة الردع في هذه الحالة مانعا ذاتيا لاعتداء طرف على طرف آخر يملك نفس الحق في اللجوء إلى استعمالها في رده على العدوان,ويمكن أن يكون الرد بقنبلتين نوويتين أو أكثر مقابل واحدة فقط.
مجالات الحرية ومساحاتها تختلف من مجتمع إلى آخربغض النظرعن (كمية) الديمقراطية التي يمارسها كل منهما.ويعود ذلك إلى قيود اجتماعية ,دينية,تراثية,قانونية,ثقافية وعقائدية حزبية.وهذا دليل آخرعلى إن الحرية مطلقة ولكن المجتمعات تتقيد بمظاهر عديدة تراكمت في تاريخها وفي تراثها عكستها على مجالات الحرية.فنجد مثلا مجتمعات تمنع مجموعة من الحريات وتحظرها وتعلل ذلك بتعارضها مع القيم العامة ومنافاتها أخلاق المجتمع, تبيحها مجتمعات أخرى,وتصونها كحقوق لا يجوز المساس بها. كما نلمس توسع مستويات الحرية في المجتمعات الأوسع تطبيقا لقيم الديمقراطية وأكثرالتزاما بها.وما اضطرارالأحزاب ذات العقائد الشمولية التي تشترط الطاعة على أعضائها وتطلب إليهم التقيد بماتشرعه لهم القيادة,وتنفيذ ما تطلبه منهم,وفي الوقت ذاته تطالب بشعاراتها بالحرية,إلا تأكيد أهمية الحرية ولو باستخدامها كخديعة سياسية للوصول إلى أغراض حزبية تتوقف عندها أبسط معاني الحرية,لأن التنظيم الحزبي الذي يحرم منتسبيه من الحرية السياسية والفكرية وحرية التعبير عن الرأي الذاتي,لن يمنحها لأحد من المواطنين من غير الحزبيين,ويظل أسيررغبات القادة ومستوى تقييهم للمصلحة الذاتية للحزب.وليس هناك من حزب عقائدي يمثل غير إرادة عقائده وفهم قادته لها,وإن ادعى بتمثيل إرادة شعبية,فإن هذا الادعاء يأتي من باب التطاول على الإرادة الشعبية ,واعتداء على حرية المواطنين في التعبيرالذاتي عنها.
تقاليد المجتمع ,أي مجتمع,ليست فائضا تراثيا تفرضه أجيال سابقة على أجيال لاحقة,وليست العادات الاجتماعية موروثا مقيدا لانتماء الفرد وولاءه,مؤكدا لنسبه وارتباطه بأسلافه,فهذه وتلك دلائل على مسارات التكوين الحضاري للأمة .فكلما تطورت وسائل الانتاج,والاتصال,وتعددت خيارات الفرد في التعبيرعن نفسه, وفي تأمين احتياجاته ,وتصالحت الثقافات التعددية,واتسعت مواضيع المعرفة وميادين العلوم, كلما تعافت التقاليد من الروتين والتكرار وطرق التعامل,وتجددت طبيعتها وتبدلت وسائلها بين الناس في المجتمع.وتختلف وتائرهذا التبدل باختلاف سرعة استجابة المجتمع لتغيرات وسائل الإنتاج وطرائقه وفكره,والتواصل باستخدام الوسائل المبتكرة دائمة التجدد والأنماط والأشكال,وتنعكس هذه الفروقات في الاستجابة بين مجتمع وآخر على أنواع الحرية المتاحة ومساقاتها الاجتماعية والتراثية وعلى مساحة كل منها وميادينها السوسيو– سياسية.
ولهذا نجد على سبيل المثال,مستوى حرية التعبير في بعض المجتمعات متاح على إطلاقه ,وفي بعضها تعترض مساحة حرية التعبير مضايقات و تضييقات تتفاوت بين المجتمعات تفاوتا واسعا بحجج مفاهيم الأخلاق والقيم والتراث السائدة ,وبحجة الأصالة مرة ونمط المعاصرة مرة أخرى ,وهي كلها حجج تتآكل مصادرها على وقع كل عملية تطور يقبل العقل بها,ويزداد العوعي بمعارفها وتطوع لمخرجاتها آليات التعامل العام.ومفاهيم القيم والتقاليد في المجتمعات التي تتبنى التنمية الجادة تنموبالتوسع أو التجددأوالذبول تبعا لما تحققه من منجزات تنموية جديدة في أي مجال حيوي من فعاليات المجتمع وأنشطته .
ولننظرحولنا لنتعرف على التغيرات الجذرية التي تشهدها عاداتنا وتقاليدنا عبر مراحل الزمن المختلفة باختلاف مستويات التنمية الثقافية والاقتصادية,فالحكيم من اتعظ بما يشهده من تغيرفي السلوك,ويتعلمه من تجدد في المعرفة,وينسجم مع تبدل تفرضه وقائع التحضر وليس التمسك بما اعتاد عليه من سلوك والوقوف عنده كتراث مقدس..