هو المطر في نهاية أيلول، يوقظ ما نحاول قتله كل يوم بداخلنا وينفض الغبار عن رفاتهم.. أحياؤنا يا غريب سكنوا المقابر قبل أن يأتي الرحيل.. تعلمت منك الكثير يا غريب، كيف أهزم مشاعري، وكيف أقتات البرودة.. وإعلان الفوز على كل من يعبِّر عن ملامحي بعينيه الصغيرتين، بالرغم من هزيمتي المبعثرة بداخلي التي زارتني بعد صباح ذاك اليوم.. تعلمت يا غريب أن أقرأ سيناريو العام الماضي والذي قبله وراء باب مقفل في غرفتي، حين أدركت أنني لا أطالب بشيء سوى فهم رواياتها المذكورة في أعلى الصفحة وهامشها. تعلمت وأتقنت كيف أحبس أنفاس الصعداء لأسترجع ذاتي في كل صباح أضعت نفسي من بعده.. وجدت الكثير يا غريب ولم أجد ما يمثلني بجسد كثرت به الندوب ولم أجد إمرأة في التاريخ موشاة بأنفاس الصعداء مثلي. لم تتقن ذاك الدور يا غريب رغما أن الدرس لتكون وهماً لجسد قد جُرد من حدود موسمية من روايتنا المفقودة، وأنا التي تغط في نوم عميق كلما وضعت رأسها فوق وسادها فتدرك مؤخرا أننا ننتقم من ذاكرتنا بالنوم أو ربما نتحايل عليها، كأننا كنا لها روحا مرئية لنكون لها عيدا وذكرى ليوم ما.
أبحث عنك أو ما شُبه لي "أنتَ" في رسالاتك الفوضوية.. أبحث لعلّي ألتقيك بأحد حواراتك فأضع نفسي في غرفتي وأقفل الباب لترميم حدود العقل والجسد وأخرس الزمن الذي أضاع مني لا شيء سوى التفاصيل، وأنثى التفاصيل تلك.. فكان أوجع من أن أولد في غربة وأعيش في أخرى.. أن تسكنني ثالثة "غربتي بك"! وكان أوجع من غربتي بك.. غربتي في جسدي بعدك، تلفت نحوي.... علّ الزمن يعانقني أو أن الوقت يبسم لي حين تغلق جميع الأبواب في وجهك يا غريب تتساءل: أيُعقل أن أحدهم سرق نصيبك من الفرح يوم ولدت! أم على غفلة من حلم سرق أحدهم أمنياتي ورحل...!
حرب تنتابني، لا تُرى ولا تتوقف.. وحرب أخرى تنتابني في عمق الأعماق ووجوده ينقطع رويدا رويدا من ذاكرة التفاصيل وأنا وهي ليست بذلك "ذات الوجود".
مازلتَ تلك الغربة التي تتسع في قلبي، ومازلتُ لا أعلم يا غريب أكان وجودك في قلم الرصاص خيراً لي كما يدعون أم حزني الأبدي! ومازالت شتاءات العمر في توالي، أحداًً لم يلحظ هذه الفجوة المتسعة بي، وجودك يا غريب يستفيق بي كلما ألقيت السلام على رجال التاريخ.. ذاكرتي يا سيدي مجردة من اللاشيء، مساحة من الضوء هي قد خلت من الإدراك والتصوّر والتصوير لأحداث العالم من بعدك.. مساحة من السنوات الهاربة التي لا حجاب بينها وبين الله ، إنسحبت بكل كبرياء داخل كذبة عظيمة صدقتها إسمها "الحياة" وأصبحت كمن يتلاشى نبضه ببطئ ويذبل نور عينيه، تختلط في وجه الوجوه وتختفي من ذاكرته التفاصيل، وعبثا أحاول أن لا أرتكب المزيد من الحماقات علّّي أتخلص من خيبات علقتها على نوافذي ، فتصمت أنتَ بين السطور لأكتب نوتات منافذي الصغيرة وتغيب بين الحروف لأصحو قليلا من رغبة عارمة لغلق كل ما تبقى مني.. فجوة كبيرة ما بين العقل والقلب يا غريب، حروف تنغرس في رغبات وصوت يتزاحم في سهام لينغرس كخناجر في مفارش حلم.
أُُوقف الوقت للحظات وأََقطعُ عنه السنوات، أوقفته علّّي لا أهدر المزيد من الساعات على مقعد الخيبة علّّي لا أهرم وحدي في الغياب.
حتى في الموت البشرية تتنفس والحياة تسير، وفي الغياب البشرية تُتُرك للضياع بين قلم الرصاص وكتاب التاريخ فنمحوا ما قتلنا على سرير الزمن ألف مرة وندّعي إنتصارنا بمعطف الأمل وأوراق الهدنة ذات صباح الخوف وصباح الوحدة والإنكسارات المتراكمة فوق ظهر قلب، ندّعي الكثير ونرجو الكثير يا غريب.. لكن ألم واحد يلِّّم بنا فنأتي لنشاطر هذه الهدنة ألمها، فتلقي بهموم الغياب عليها لتشتت رحيلك في طريق العمر كمن يبعثر فنجان القهوة على وسائد محشوة بالوهم.
يربكني الهطول الأول للمطر يا سيدي، يبعثر أوجاع قلبي.. يمر عليها ذكرى ذكرى ينثر أنفاس قطرة مطره ليغرقني في حنيني لملامح تشبهك، فأسقط في أعماق تلك القطرات ذات روح من ملاك الله.. يربكني لحد النوم تحت أجفان مغمضة لتتحدث القليل عنك معها.
قاتل هو الشتاء سيدي حين تكون وحيدا، قاتل هو الشتاء سيدي حين تكون في الغياب ملهما لتفاصيل ذاكرة تنزف مع مطره... بتّ أبغض الشتاء وأيلول فذاكرتي تتبعثر في سمائهم، ومن ودعتهم ذات شتاء تركوني أكمل شتاءات العمر مع أيلول وحدي، فلا معطف لك سوى ذاكرتك يا غريب وأنا لا معطف لي سواك والله...
" في المدينة هذا الصباح.. جنود غرباء وإمرأة تنتظر رجلا، تأخر عن الموعد ثلاث ساعات ولم يأت حتى الآن" هذا ما حدث في صباح الأمس لعل ذاك حقيقة حدث في مدينة محتلة أم خيالا أُُرغم عقلي عليها.
تأخر عن الموعد.. بيني وبينه مسافة قصيدة "ومئات السنين".. ما حال الكلام والوجع أمام الخسارات الكبيرة التي لا تعوض في شتاء فيبرا وأيلول؟؟ "لا شيء، فأنا بُتُّ للغياب فدعكَ مني".
"مضن هو حوار العقل مع قلب أحمق يا غريب"