ينطبق على دعوة الأخضر الإبراهيمي الى وقف اطلاق النار بمناسبة عيد الأضحى ما قيل في مستهل مهمته بأنها لملء الفراغ وتمرير الوقت في انتظارات عدة: ما بعد الانتخابات الاميركية، رصد الامكانات المتوافرة لحل سياسي من ضمن سيناريوات متداولة، اتضاح صيغ محتملة لتصعيد العمليات العسكرية للمعارضة، واستكمال الترتيبات لإنشاء منطقتين آمنتين في الشمال والجنوب بغية تشديد الضغط على النظام السوري.
اذاً فلا أحد يعتقد بأن وقف النار هذا يمكن أن يتحقق. صحيح أنه يجب تأييد الفكرة ودعمها انسانياً وأخلاقياً، إلا أن اعتـبارات كهذه لم يكن لها أي دور في صنـع قرارات النـظام منذ اليوم الأول، فضلاً عن أنه لا يزال يعتبر نفسه «الدولة»، وأنه يخوض مواجهة مع «ارهابيين». وبهذا المنظور يستبعد أي وقف جدّي لاطلاق النار، لأنه يبحـث دائـماً عن اسـتسلام «المتمردين» ليـعمد بعدئذ الى قتلهم. أما المعارضون فيقولون بوضوح: «نحن لسنا معتدين بل معتدى علينا وعلى المعتدي أن يوقف النار».
في أي حال انجلت المواقف حتى قبل وصول الابراهيمي الى دمشق، فالمجالس العسكرية حددت شروطاً لاستجابة دعوته، بعض منها يذكّر بخطة كوفي انان (اطلاق المعتقلين، ايصال مساعدات طبّية وإغاثية الى حمص، وقف الغارات الجوية وتحريك الأرتال...)، وليس فيها ما هو مستحيل لكن النظام يعتبر تلبيتها تنازلاً لـ «العصابات» التي اخترع وجودها وصدّقه تبريراً لارتكاباته. وهو، في المقابل، وضع شرطاً صعباً، بل مستحيلاً، حين ربط أي وقف للعنف بامتناع الدول كافة عن تسليح قوات المعارضة. لكن المراقبين رصدوا، والنظام يعرف جيداً، أن التسليح المرتبط بالدول فرض نفسه غداة فشل تعريب الأزمة وتدويلها، أي بعد أكثر من عام كامل على بدء الانتفاضة سلميةً قبل ان يتعسكر بعضٌ منها اضطراراً. وقد تبلورت ارادة التسليح بعدما برهن النظام أنه فقد شرعيته وأصبح طرفاً يقاتل ضد طرف آخر، فلو كان «الدولة» كما يدّعي لتصرّف بمسؤولية، والمسؤولية لا تسوّغ القتل الاعتباطي والمجازر والتنكيل المتعمّد للإذلال. وبما أنه طرف فاقد الشرعية لكنه يتلقى كل أنواع الأسلحة من روسيا وايران وكوريا الشمالية، وبما أن الفيتو الروسي - الصيني عطّل اي تدخل دولي شرعي لمعالجة الوضع، فقد سقطت المحظورات وأصبح الخيار بين: ترك الشعب يُقتل بلا أي حماية أو مدّه بما يمكّنه من الدفاع عن نفسه.
للطرفين وبالأخص للشعب مصلحة في هدنة، في «استراحة محاربين»، بل في استراحة شعب منكوب وصامد، وفي أن يُشعِرا غير المحاربين بأن ثمة عيداً دينياً لا ضير في تمييزه، وأخيراً في اتاحة فسحة للأهل المحزونين كي يستذكروا أحباءهم الذين رحلوا أو فقدوا. لكن أعياداً كثيرة مرّت على الشعب السوري دامية وقاسية ولم يفكّر فيهم أحد في هذا المجتمع الدولي الأصمّ، لذلك فإن الشعب لم يعد يعنيه سوى عيد واحد: يوم سقوط النظام. ولعل كل الأسباب التي ذُكرت لا تبرر للنظام قبول «هدنة العيد»، واذا فعل فليحسّن موقفه استعداداً لهجمات أو ليفكّ الحصار عن وحدات من قواته في أماكن عدة، كما في حلب أو بالأخص في ادلب حيث اضطر بعض منها للاستسلام بعدما أمضى وقتاً طويلاً من دون تموين. وحتى لو حصل فعلاً وقف للنار فإنه لا يعني بأي حال ألا تخرج التظاهرات السلمية المعتادة التي دأب النظام على قمعها، وهي لا تزال الخط الأساسي للانتفاضة وكان النظام فشل في احترامها منذ مجزرة الجامع العمري في درعا.
عندما ناشد الابراهيمي «الجميع» وقف النار و «بقرارات منفردة»، كان يتطلّع الى قرارات اختيارية. وهذا ينسجم مع اسلوب اختطّه لمهمته، اذ يطرح فكرة آملاً بأن يتلقفها الطرفان لتصبح مبادرتهما، ولعله يعتزم أن يستخدم النهج نفـسـه في الجانب السـياسي اذا ما اتيـح له أن يشرع به . لكنه ازاء طرفين تباعدا كثيراً ويأمل كلٌ منهما في تغيير ميداني يمكن أن يعزّز موقعه التفاوضي لاحقاً، وبالتالي فإنهما غير مهتمّين بهدنة مجانية ستعني للنظام بداية اعتراف بتراجع وضعية «سيادية» لا يزال يتوهم حيازتها، وستعني للمعارضة اضاعة وقت يعرف النظام كيف يستغلّه. وطالما أن الأمر يعتمد على رغبة الطرفين فحسب، فهذا يعني مجرد اختبار افتراضي يعتقد الابراهيمي أنه لن يخسّره شيئاً من رصيد مهمته التي لا تزال أساساً من دون أي رصيد.
بموازاة فقاعة وقف النار والجدل غير المفاجئ الذي رافقها، هناك ورشات أفكار وعمل بعيدة من الأضواء لعل أهمها ثلاثة: 1) متطلبات «الحل السياسي»، 2) متطلبات تطوير عمل المعارضة، و3) متطلبات تغيير المعادلة على الأرض.
لم يعلَن مضمون الورقة التي قدّمتها ايران الى الابراهيمي، والمتداول عنها لم يأتِ بجديد، فـ «التنازل» الأقصى الذي تقترحه أن بقاء بشار الاسد أو رحيله يُحسم في انتخابات 2014. أما فترة السنتين المتبقية فيمكن أن تُدار، وفقاً لطهران، كـ «مرحلة انتقالية» ربما يُعطى فيها دور مدعّم بصلاحيات لنائب الرئيس فاروق الشرع. وعلى افتراض -مجرد افتراض- أن هذا المدخل الى «الحل» يحظى بقبول دولي، فإن الشرط الايراني الذي ينسفه هو ألا تمس مؤسستا الجيش والأمن خلال تلك المرحلة، باعتبارهما ضماناً لسلطة الاسد ولمصالح ايران وروسيا وسائر الحلفاء، فأين «الحل» اذاً، وما الذي يتوقع من «حكومة انتقالية» يحكمها «الشبيحة»؟ هذه مسألة حسمتها الانتفاضة منذ زمن، ولم يعد واقعياً العودة اليها. واللافت أن كل المشاريع التي يأتي بها الروس والايرانيون وسائر الحلفاء لا تعترف بما حصل في سورية منذ ما يقرب من عامين، لذلك تبقى طروحاتهم خارج الواقع.
أما تطوير عمل المعارضة فيشهد حراكات عدة في أكثر من عاصمة. هناك سباق بين «أصدقاء الشعب السوري» لا يخلو من فوضى وعدم تنسيق ومن تزاحم على تقاسم أوراق الصراع على مستقبل سورية، السياسية منها أو الأمنية، فالاميركيون والاوروبيون والاتراك وبعض العرب يتوزعون النشاط بشكل عشوائي لكن بمعرفة واشنطن ومشاركتها الخلفية. واستناداً الى بعض المصادر فإن فكرة الحكومة الانتقالية تشقّ طريقها، وسيعتمد فيها على شخصيات منشقّة و «مقبولة» لادارتها، ويمكن ضمّ عدد من المعارضين اليها. بديهي أن تشكيلها يتطلّب ضبط ايقاع التدخلات وتحقيق شيء من التناغم بين «الأصدقاء»، وهذا ما يفترض أن تتولاه واشنطن بعد الانتخابات وفي أقرب وقت اذا أعيد انتخاب باراك اوباما، أما فشله فيفرض تأخيراً آخر على مسار الأزمة ريثما يُنصَّب ميت رومني وتجهز ادارته. ولن تكون هذه «الحكومة» (حكومة «المجلس الوطني السوري») أكبر تشكيلات المعارضة، خصوصاً بعد مؤتمره الذي ينعقد الاسبوع المقبل في الدوحة لهدفين رئيسيين: توسيع قاعدة تمثيله وتعزيز ارتباطه بالداخل، وانتخاب أمانته العامة ورئيسه الجديد، فـ «المجلس» سيبقى أبرز الأطر المواكبة للحراك الثوري في الداخل سياسياً وعسكرياً، لكن استحالة انضواء جميع فصائل المعارضة تحت لوائه هي التي دفعت القوى الدولية المعنية الى التفكير في هيئة «قيادية» للمرحلة المقبلة من الكوادر المتوافرة ذات الخبرة العميقة بالنظام وبالداخل السوري.
وبالنسبة الى تغيير المعادلة على الأرض فرغم اعتراف الخبراء بأن قوات النظام ستبقى ذات تفوّق ناري إلا أن وضعها الميداني فقد مناعته في الشمال والجنوب مفسحاً المجال لإنشاء منطقتين آمنتين. وقد مسّت الحاجة الى مثل هذه المناطق بغية استثمار تقدّم المعارضة المسلحة وتمكينها من حماية انجازاتها والبناء عليها، وأيضاً من أجل هدفين آخرين: إيجاد موطئ قدم للمعارضة السياسية والحكومة الانتقالية، واستيعاب عدد من النازحين في الداخل. ومن المتفق عليه أن تغيير المعادلة سيكون بـ «تحييد» سلاح الجو عبر تزويد المعارضة بالمضادات الحديثة من دون الاضطرار الى أي تدخل عسكري خارجي مباشر.
* كاتب وصحافي لبناني.