وضع أرسطو فيلسوف ما قبل الميلاد وما بعده,تصوره لسياسات الهيمنة في القرن الرابع قبل الميلاد مبينا كيف تقوم هذه الممارسة,أي هيمنة دولة على جيرانها أو غيرها من الدول, على التناقض الأساسي الذي يتبناه رجال الدولة المهيمنة ونوع العدالة التي يمارسونها في معاملة الآخرين,وهومطابق لمانشهده في العصورالحديثة التي بدأت بأطماع القوى الاستعمارية وتوارث السياسات الإمبريالية التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا,التي تمارسها الدول الإمبريالية منذ القرن التاسع عشر بأساليب استعمارية واستغلالية بعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية ,وتقف على النقيض مع أبسط مبادئ العدالة وأسس الحرية وأصول الديمقراطية واحترام الحقوق الإنسانية الأساسية. فقد لخص ارسطو تصوره بقوله :-
لا بد أن يبدو شيئا غريبا حقا للعقل الذي على استعداد للتفكر,أن يتوقع الناس من رجل الدولة أن يبتكر الخطط في الحكم والسيطرةعلى الدول المجاورة,دون أي من اعتبار لمشاعرهم .... لا يخجل الناس من التصرف مع الآخرين بطرق ربما يرفضون الاعتراف بينهم وبين أنفسهم بأنها عادلة أو حتى أخلاقية. في شؤونهم الخاصة,وبينهم وبين أنفسهم ,هم يريدون سلطة تستند إلى العدالة,ولكن حين يتعلق الأمر بالآخرين,يتوقف أي اهتمام لهم بالعدالة.
قال أرسطو هذا الكلام قبل ما يزيد على قرنين وربع القرن,ولم تكن في ذلك الوقت قد تشكلت الأمم المختلفة في دول بأعداد فاقت في بعضها الألف مليون نسمة, قادتها حكومات بسياسات ارتهنت إلى القوة في تعاملهامع الآخرفيما يشهد عليه تاريخ العلاقات بين الأمم, وكانت هذه الدول وما زالت تتفاوت في قواها وفي قدراتها وفي سياساتها الداخلية والدولية وإمكاناتها العسكرية والعلمية والتقنية.فالعدالة في التعامل مع الآخربما تقبله النفس من تعامل الآخرمعها يشكل مفهوما مثاليا لم تشهد العلاقات الدولية على قيامه بين دول قوية وأخرى ضعيفة, ولكن الأمثلة على علاقات يقوم أحد أطرافها بالسلوك المشين ضاربا القيم الأخلاقية بعرض الحائط عديدة ومارستها حضارات متنوعة كل في زمن تفوقها في قواها الاقتصادية والعسكرية,وهو ما زلنا نشهده حتى يومنا هذا في تعامل قوى الاستعمار مع غيرها من الدول,وكأن البصيرة الثاقبة لأرسطو شكلت قانونا مرجعيا لسلوك السيطرة والدأب الجاد والجامح لإبقاء كل من القدرة العسكرية والقوة الاقتصادية في موقع متفوق لضمان فرض الهيمنة على أمم العالم,وتوجيه السياسات الدولية في الاتجاهات التي تحافظ على المصالح الخاصة وتديم في الوقت ذاته صيغة الهيمنة وتحكم قوة قبضتها على الآخرين.
وكي نحاول ربط ما توقعه أرسطو في العلاقات الدولية غيرالمتكافئة,بين أمم كبيرة,لم تكن قائمة في زمنه, من غياب العدالة وخفوت صدى القيم الأخلاقية ,نشير إلى أن التراث اليوناني(الإغريقي) يزخر بالتفاخر بمصدري قوة لدولة - المدينة (دولة صغيرة متجانسة في النسب,تحرم العبيد وغير المواطنين والنساء من حقوق يتمتع المواطن فقط بها), وهذان المصدران هما ؛قوة المحاربين الأشداء(أي الجيش)؛ وقوة المال (أي الاقتصاد في فهمنا المعاصر).وقد استطاعت رؤية فيلسوف عبقري ببصيرة نافذة (كما يصفه البعض) من أن تعكس هذه المؤثرات على دولة – الأمة كما في عصرنا الحالي,وقد اشتهرت بممارسة هذه السياسة الولايات المتحدة الأميركية .
من أبرزالمنظرين لأهمية المحافظة على سياسات الهيمنة الأميركية وضرورته, هما هنري كيسنجر, وزبيغنيو بريجنسكي, وقد شغل كل منهما مناصب سيادية مؤثرة في إدارات أميركية مختلفة , ويدعوان كل حسب خبرته ورؤيته لطبيعة المصالح الأميركية, إلى ضرورة العمل بكل الوسائل المتاحة على إبقاءالولايات المتحدة الأميركية القوة الأعظم عسكريا وماليا (إقتصاديا) كي تحافظ على وضعها العالمي المهيمن على مجريات الأحداث وتوجيهها بما يخدم مصالحها,والإبقاء على محركات التغيرات في القوى الدولية وتقلباتها ونمو مصادرها تحت السيطرة لأطول فترة ممكنة,وهو بالفعل ما تعمل السياسات الأميركية على الالتزام الصارم بالحفاظ عليه ما أمكنها ذلك.
يتفق كل من كيسنجر وبريجنسكي على قائمة الدول التي تتقدم بمعاييرالعصر وتطور قواها العسكرية والاقتصادية لمنافسة الولايات المتحدة الأميركية على التفرد كقوة عظمى وحيدة,منها روسيا والصين والهند وأوروبا (مجتمعة),وتؤيد هذه التوقعات الإنجازات التي حققتها وما زالت هذه الدول في مجال كسرسطوة الهيمنة الأميركة,ومزاوجة ومثالثة ومرابعة التربع على عرش القوى العظمى, وهذا بحد ذاته يصب في مصالح الدول الأخرى ويمنحها الفرص كي تستعيد أو تستكمل استقلالها وحريتها في اتخاذ قراراتها السيادية بما يتفق مع رؤاها ويحقق لها مصالحها .
ولا يفوتنا التذكير بأن الهيمنة دافع فردي نجده في علاقات الأفراد بعضهم ببعض,وهي نزعة قوية لدى أحزاب العقائد الشمولية في الاستئثار بموارد المجتمع الثقافية والقيمية والتراثية كما في الاستئثار بالحكم كشهوة يزداد تدفق اللعاب لها كلما أمعنت تلك القوى بمحاولات تحويل المجتمع إلى موالين ومناصرين مطيعين شاكرين السلطة حامدين عطاياها (تابع ما يحدث في مصر وتونس),على الرغم من إن الوعي الجماهيري أصبح في مستوى ما بعد الاستئثار والهيمنة .
اللعبة الدولية في الأزمة السورية تأتي كدليل على تقييد الرغبة الأميركية وحلفائها من العرب والترك والأوروبيين على تغيير النظام السوري واستبداله عن طريق القوة,بحلفاء تجريبيون تحتاج إلى الثقة بهم , عندما واجهت تحالفا روسيا صينيا إيرانيا حد من طغيان قوتها ولجم غليان هيمنتها ووأد هيجان سطوتها, فلجأت إلى أساليب المؤامرة بإثارة المجندين من النظم ومن المسلحين وتجييشهم في حراك غابت عنه أسس المعارضة الوطنية فوقع الجميع ضحايا الوعودالأميركية – الأوروبية في التدخل العسكري,ووجد العرب المخذولون بعلاقة تاريخية طويلة مع السيادة الأميركية على ثرواتهم وعلى قراراتهم أنفسهم في مهب حراك حاولوا إضرام نيرانه في سوريا بوهم محاربة القومية وقوى المقاومة للمشاريع الصهيونية المكبلة لقوى مصر العسكرية والمبتهجة بإنهاك المقدرات الوطنية السورية.
يفتقد الإنسان الذي يطلب العدالة من إنسان آخر إلى الحكمة.لأن العدالة فوق قدرة الإنسان وأعظم من أن يعطيهاأولوية على دوافعه ,وأكرم من أن يقدمها على غرائزه.