في ضوء استمرارالأحداث الجارية في سوريا ,وما تمثله من مواقف من أطراف الأزمة وردود أفعال كل طرف على أفعال الطرف الآخر,تظهر علائم عراقة الحضارة في التراث السوري التي تعبرعن دور العراقة الحضارية في امتهان السلوك واتخاذ المواقف التي تتماهى مع تراثها حتى في أحلك الأوقات وأقسى الظروف وأصعبها,على الرغم من كل التهديدات الأميركية وغيرها وعروض الترغيب التي تقايض على الموقف الوطني للدولة السورية الصارم من القضية الفلسطينية والمقاومة الوطنية.
الأزمة السورية متنوعة الأدوار المحركة لها وتتعدد دوافعها بتعدد أطرافها المتسببين بها حيث لكل طرف منها دوافعه وأهدافه وأغراضه, تبتعد كل منها عن بعضها البعض في حالات وتتناقض فيما بينها في حالات أخرى كثيرة , وليس هناك من حالات تلتقي عندها أطرافها مختلفة المبررات والدوافع متفقة فقط على إيقاع أكبر الأضرارفي البنى والهياكل الأساسية التي تمكن سوريا الدولة من الاستمرار في مواقفها السياسية المبدئية من قضايا أمتها العربية,مستهدفة أغلى مكون من مكونات الوطن المتمثل في حياة الأبرياء وحياة العسكريين والمدنيين دون تمييزوبتقصد مهين.
المؤامرة ليست بدعة سياسية,وليست فكرة طارئة تتعذر بها قوى وحكومات وأحزاب وجماعات..فهي كما يعلمنا أساتذة العلوم السياسية ( الأجانب كما يحلو للبعض الاقتداء بما يقولون) والعرب واقع إنساني قائم منذ زمن بعيد , وهي إحدى أهم عوامل المناهج السياسية في الصراع الذي تخوضه القوى لسياسية بين حين وآخر.وإلا كيف تلتقي إرادة (شعبية؟؟ ) مع رغبة دول تاريخها الاستعماري سابق على صياغاتها السياسية وعلى سلوكها تجاه مصالحها؟كيف تتفق الإدارة الأميركية ,مع الإدارة الفرنسية,مع الإدارة الإنجليزية (جارّة خلفها الدول الأوروبية,التي لا يخلو تاريخ أيا منها من العبث الاستعماري,وإثارة الحروب الدينية والعرقية والعنصرية والاستخباراتية التخريبية) مع إدارة الكيان الصهيوني,مع إرادات حكومات عربية بعينها التي لاتجد صديقا لها يحميها سوى الغرب عموما وأميركا بقواعدها العسكرية خصوصا مع إرادة (الشعب السوري؟؟).
عراقة الحضارة السورية (سوريا الدولة الحالية وسوريا الطبيعية) وحضورها الدائم في وعي السوريين وتراثهم الحي ليست سرا من أسرار الكهنوت السياسي الذي تختفي خلفه أقلام مأجورة تنطق باسم قوى لم نكن في يوم من الأيام نتوقع لها وجودا بين ظهرانينا تتنكر لتاريخنا العربي,وتنكر علينا انتماءنا القومي, وتتلهف على عودة المستعمروتدعوه بملئ فمها وتطالبه من صميم قلبها بأن يعود لتعود معه شخوص الزعامات الوهمية العاجزة حكما عن إدارة مصالح الوطن ومواطنيه. فمن ناحية لا يشتري الاستعمارأشخاصا لا يقبلون أن يعملوا جنودا مأمورين من شاويشهم مطيعين بما عليهم القيام به من عمل وما يجب عليهم اتخاذه من مواقف إزاء المعارضين وإزاء الشر فاء والمخلصين من أبناء وطنهم , ومن ناحية ثانية لا تشتري هذه القوى إلا من يعرض نفسه للبيع , ولهذا تظل الثقة بهم معدومة.أولم يكن الاستعمار يفرض وجوده بقواه العسكرية ومطارة الأحرار وقتلهم واستغلال ثروات الوطن وإهدار قواه وكبت مرجعياته الوطنية وهدم تراثه التحرري,والاستعانة بضعفاء النفوس وخداعهم لتغطية أعمالهم الشائنة بالتسترخلف وجودهم الوهي ,فكيف بالبعض اليوم , ومنهم من يكفرها, وبكل هذه المجاهرة بدعوة هذه القوى عينها بموافقة مجلس الأمن أو دونها لتدمير كيان وطنه وبنيانه إلى ما سبق وأن أشرنا إليه بـدعوات التحرر بقوى الاستعمار, بدلا عن نضالات التحرر من قوى الاستعمار؟؟!! .
المتابع لأحداث سوريا بنظرة فاحصة يحيد فيها ,ولو إلى برهة ,أسس تقويم الحالة السورية ,بغض النظر عن وقفته إلى جانب أي من أطراف الأزمة ,يلاحظ جملة من مظاهر سلوك الدولة في لم يألفها في الماضي, وربما لم يكن يتوقع أن يلاحظها ,وتتمثل هذه ببعض الظواهر بالوقائع التالية :
- اعتراف الدولة السورية الواضح والصريح بالأزمة وعدم التنكر لمسبباتها أو إنكار المحق منها, في الأعراف الإصلاحية لمطالبها والاستجابة للعديد من هذه المطالب بتعديل أساسي وشامل للدستوروقوانين عديدة للتحول الديمقراطي الحقيقي والملتزم به دستوريا.والاعتراف بالمعارضة الوطنية النقية من التواصل مع الأجنبي وبدورها وبمطالبها.والدعوة المستمرة للحوار,وتفويض لجان شعبية بإجراء المصالحات بين الدولة والمعارضين المسلحين وتأسيس وزارة المصالحة الوطنية.
-الهدوء والرصانة في موقف الجهات الرسمية المعلن من الأحداث وأسبابها ومسبباتها,مما انعكس على ردود الأفعال المتزنة بعد وقوع حوادث جسام,مثل تفجير مقر وحدة الأزمة واستشهاد القادة العسكريين الخمسة, مما أربك مخططي عملية التفجير من ضباط استخبارات الناتووفاجأهم بالتدابير السريعة والمواجة الآنية وإحباط لخطة السيطرة على دمشق,كما اعترفوا بذلك فيما بعد.
-الحفاظ على أدب الخطاب الرسمي في مواجهة تصريحات عديدة افتقدت الأدب وأصول التخاطب من جهات دولية ومن منظري المسلحين ومفكريهم,الذين حافظوا على المطالبة بالتدخل الدولي بمناسبة وبغير مناسبة,واتهام الجيش العربي السوري بما يقومون به من أعمال القتل والمجازر المصورة والموثقة وعلى توصيف الواقع السوري بثقة المسيطرين على سير العمليات العسكرية والمتدبرين شؤونهم العملياتية.(قارن تصريحات كلينتون الاستعلائية والعدائية,وتصريحات أردوغان المنفعل المحبط الذي يسقط في براثن الفشل المستمر في سياساته وألفاظة ومواقفه دون أن يلاحظ تدهور شعبيته لدى الأتراك وقصفه الأكراد في العراق دون حياء أو خجل مما يوجهه من اتهامات بالقتل لسوريا,بالردود السورية الهادئة والمتزنة الملتزمة حدود الأدب بحزم العبارة وصوابية التوصيف في الردود عليها).
-التصدي الفكري الراقي والمنضبط لدعوات الفتنة الطائفية وأفعالها المشينة ,والتحريض الفئوي وتجييش النوازع الانفصالية الداعية إلى التقسيم والتشرذم التي ما زالت تحلم بمثلها فرنسا وبريطانيا بشكل خاص,تماهيا مع تاريخهما الاستعماري التقسيمي القبيح للمنطقة خلال القرن الماضي.
-لصياغة المبتكرة والرزينة لبيانات القيادة العسكرية على ندرتها,على غيرما توقعه البعض من بيانات نارية تحمل التهديد والوعيد كما اعتادت على سماعه الأذن العربية .ورصانة صياغة أخبار الأحداث القتالية وأنباء التفجيرات الإرهابية التي تبادر الجهات الإعلامية السورية إلى إذاعتها ونقلها حية لتفويت الفرصة على محطات عديدة امتهنت الكذب والتهويل وكذبتها الأحداث الجارية على الأرض السورية ,وكشفت غرفها السوداء وأفلامها المفبركة والمزورة للحقائق ووقائعها.فتفوق الإعلام السوري بإمكاناته المتواضعه على مليارات إعلام التحريض والوقيعة التي يريد ممولهاالانتقام من التاريخ الوطني التحرري العربي,ومن الفكر القومي العربي الذي يكشف زيف وجودهم.
خداع النفس لا ينحصر في التمني بما لا تستطيع النفس الوصول إليه,وإنما إنكار الواقع والقفز فوق الحقائق,وتجاوز الأوضاع بتخيلها لا كما هي ,يمثل الخديعة الكبرى التي تقع النفس فيها وقعة لا تنهض منها سليمة معافاة.وهذه السقطة يقع فيها كل من ينكر وجود المؤامرة المدبرة بإحكام بين قوى الامبريالية والرجعية والأطماع السلطانية وبين قوى سياسية سورية من الإخوان المسلمين (والمرجعية تكرار أحداث بداية الثمانينات التي استمرت فترة طويلة اكتشفت الجماعة بعدها أنها أقدمت على عملية انتحار!!) والمعترضين الذين بلغ عدد مرجعياتهم أكثر من ثلاثين مرجعية غير متفقة فيما بينها ,وهي ليست راغبة في الاتفاق فيما بينها لتعدد مصادر ارتباطاتها الخارجية ومصادر تمولها المالي وإمدادها بالسلاح والدعم المعنوي.وأصبح واضحا بعد فشل أسقاط النظام في سوريا بمواعيده الفاشلة المتكررة إن إنهاك القدرات السورية وإهدار طاقاتها هو هدف لقوى الغرب الإمبريالي وسقط في الفخ المعترضون الذين يستهوون القتل من أجل القتل لاغير.