ليس معروفاً لماذا جازف أحمد داود أوغلو بالدفع مجدداً باسم نائب الرئيس السوري فاروق الشرع واعتباره «رئيساً مقبولاً» أو تميل المعارضة إلى قبوله. فلا يخفى على الوزير المحنّك أن مجرد تبرع مسؤول تركي غداة التقاصف الحربي بين البلدين بتفضيل شخص في النظام كبديل من رئيسه كفيلٌ بـ «حرق» هذا البديل ناهيك بتعريض أمنه الشخصي للخطر. وهو يعرف بلا شك أن امتداح الشرع كـ «رجل عقل وضمير ولم يشارك في المجازر» لا يرفع من أسهمه في دائرة القتلة التي تدير الحرب على الشعب السوري بل يحرضها ضدّه. في كل الأحوال بدا أوغلو كمن يقول للجميع إن الحل سيكون سياسياً في نهاية المطاف، وبالتعاون مع شخوص من النظام، وليس بإسقاطه عسكرياً.
هي عودة، قد تكون الأخيرة، إلى «السيناريو اليمني» بعد تنقيحه وتكييفه مع الوضع السوري، بما فيه من محاولة لإيجاد مخرج لرأس النظام وأعوانه، قبل أن تؤدي التطورات إلى إقفال كل المخارج. ولعل الوزير التركي كان يخاطب موسكو على الأخص، لأن الروس أول من غازل هذا السيناريو قبل نحو عام ثم توقفوا نهائياً عن تداوله متذرعين بأن بشار الأسد اعتبره غير قابل للنقاش. أي أنه لم يكن آنذاك باحثاً عن «مخرج» بل عن إنهاء الأزمة والبقاء في السلطة، حتى أنه لم يكن قد تحدّث عن «حسم (عسكري) قريب» ضد خصومه إذ عوّل على استغلال «الحل العربي» وتطويعه لمصلحته. فهل تغيّرت الظروف لتتيح طرح «السيناريو اليمني» مجدداً، وهل يمكن موسكو أن تستعيده وتعمل على تفعيله؟
قبل عام كان النظام لا يزال يراهن على الوقت ويرى جملة خيارات أمامه، أهمها «الحسم»، فجرّبه خصوصاً في حمص ثم حاوله بعدئذٍ في أكثر من موقع ولم يفلح، وأخيراً أصبحت دمشق وحلب بؤرتي «الحسم المضاد». وبات معلوماً أن داعمي المعارضة هم أنفسهم الذين يؤجلون تمكينها من الحسم ضد النظام بإحجامهم عن مدّها بالسلاح النوعي، اللازم والضروري، وتتفاوت أسبابهم ودوافعهم بين مَن يخشى على الأقليات (وعلى إسرائيل بالنسبة إلى الغربيين) إذا سيطر الإسلاميون ومَن لا يريد تكرار نموذج الفوضى العراقي أو الليبي.
وقبل عام كان القتل والمزيد منه يُترجَمان بأن النظام لا يزال قوياً ومسيطراً، وأصبح يعني الآن أنه أكثر غرقاً وتورّطاً، وكأن قوته النارية أثبتت ما عندها وفقدت فاعليتها أمام السلاح الأمضى، وهو الاستهانة بالموت، الذي شهره الشعب كاسراً كل حسابات النظام وحتى الآمال السرّية لكثيرين ممن يوصفون بأنهم «أصدقاء الشعب السوري». فلو وجد بعض هؤلاء فرصة سانحة لما ترددوا في استبقاء النظام (مع إصلاحات عميقة) لكنه لم يساعدهم أبداً، فكان تعنته بمثابة مساهمة لم يتقصدها في ثورة الشعب عليه.
وقبل عام لم يكن قد استشعر انعكاسات العقوبات الدولية وتضييق العزلة الدولية والعربية عليه، ولا بدّ أنه تيقن الآن أنها جعلته أكثر تبعية لحليفيه الروسي والإيراني اللذين يدعمان صموده صوناً لمصالحهم ولا يملكان أي حل سحري لإنقاذه. فحتى ورقة «إشعال المنطقة» لا تبدو محبّذة لدى الحليفين، فروسيا لن تتبنّاها إلا في حال قررت دول «الناتو» التدخل وهو ما لا تراه وارداً لكنها تتحوّط فتواصل التحذير منه، أما إيران التي جاءتها الضربة من ريالها المتدهور فتفضّل موقتاً ألا تواصل المناورة عند حافة الهاوية. ورغم أن موسكو تشاطر دمشق وطهران ضيقهما من الدور التركي الحاسم في دعم المعارضة، إلا أن الضغط الروسي للجم التصعيد الأخير كان بارزاً. لا يعني ذلك أن التوتر بين تركيا وقوات النظام سينحسر، فالنظام يستشعر خطراً قريباً آتياً في السعي إلى تمكين المعارضة من إكمال سيطرتها على الشمال لفرض منطقة عازلة - آمنة من دون الاستعانة بغطاء جوي دولي بل بدفاعات أرضية تشلّ مقاتلاته. ولا تمانع الدول الغربية مثل هذا المشروع الذي لا يتطلّب تدخلاً، لكن سبق لروسيا أن عارضته وليس واضحاً إذا كانت ستحاول جدياً إفشاله.
لم يتوقف الحديث عن «حل سياسي» في مختلف المراحل، سواء باعتباره - مبدئياً - الوسيلة الوحيدة لوقف القتال وإراقة الدماء أو بحثاً عن حل عقلاني يحافظ على وجود الدولة والجيش والمؤسسات. ولم ترفضه تشكيلات المعارضة كافة، بما فيها تلك العسكرية، كمؤدى منطقي للاحتجاج والقتال. إلا أن شروطه تبدّلت مع تصاعد العنف وبات بقاء النظام ورموزه من المستحيلات، كما أنه مرّ بتغيّرات وتقلّبات عدة، منها مثلاً أنه تراجع في الشهور الأخيرة لمصلحة الاحتكام للأرض ومعاركها، ومنها أيضاً أنه بلغ ذروته مع محاولة كوفي أنان في لقاء جنيف لـ «مجموعة الاتصال» في 30 حزيران (يونيو) الماضي إذ كان مشروعه قريباً جداً من «خيار فاروق الشرع» من دون تسميته لكن الآلية التي تصوّرها تفترض توافق الدول الخمس الكبرى، أو قل توافقاً أميركياً - روسياً، على «خيار تنحّي الأسد» كبداية لا بدّ منها للمرحلة الانتقالية. ومنذ أحبطت موسكو هذا الخيار، وبعد استقالة أنان، لم يعد هناك حل سياسي على جدول الأعمال. ولم تجد موسكو أي استجابة من الأطراف الأخرى لمحاولتها إحياء «اتفاق جنيف»، ربما لأن مبرراتها ودوافعها لإحباطه كشفت أنها تستخدمه في المساومة على مصالحها الخاصة مع واشنطن وليس في معالجة الأزمة. والواقع أن روسيا لا تقيم أي اعتبار لسقوط ثلاثين ألف قتيل أو أكثر، ولا تعتقد أن الدم يمكن أو يجب أن يتحكّم بالحل، وقد وجد ممثلو المعارضة أن محاوريهم الروس يستخفّون بالحديث عن الضحايا وأن تصوّرهم للحل السوري يستوحونه من «نموذجهم» في الشيشان حيث قتلوا عشرات الآلاف ثم فرضوا نظاماً تابعاً لهم في غروزني. يبدو أن اقتراب «ما بعد الانتخابات الأميركية» والآمال والأوهام المعلّقة عليه، وبلوغ الوضع الإقليمي ذروة التصعيد في المواجهة التركية - السورية، وجمود الوضع العسكري داخلياً لكن مع استمرار المجازر، كذلك شروع الأخضر الإبراهيمي في مهمته، أعادت تحريك ورشة «الحل السياسي». وهذا على الأقل ما أراد أحمد داود أوغلو الإيحاء به ملوّحاً بأن مثل هذا «الحل» محبّذ لكن سقفه بالنسبة إلى النظام وحلفائه لا ينفك ينخفض، فما بدا مقبولاً على مضض عشيّة «لا اتفاق جنيف» لم يعد مقبولاً الآن، وما بدا متاحاً بالنسبة إلى الأسد عبر «السيناريو اليمني» قبل عام - واليوم! - قد لا يتاح أبداً بعد اليوم، وبالتالي فإن عليه أن يختار بين «استراتيجية الانتحار» التي يندفع إليها و»استراتيجية الخروج» التي لن تبقى معروضة عليه إلى ما لا نهاية. فالروس يبالغون في العنت والابتزاز، لكنهم مدركون أن العالم الذي سكت على جرائمهم ونظامهم في الشيشان قد تغيّر ولا يمكن فرض النظام السوري وجرائمه عليه. أما الولايات المتحدة فسيكون عليها، خصوصاً بعد التجديد لباراك أوباما، أن تبرهن أنها لا ترغب في إدامة الأزمة في سورية، وفقاً لشكوك أصدقائها وخصومها. فلا التمديد للاضطراب في المنطقة خيار مسؤول ولا اعتماده والتذرع به يشكل سياسة مجدية وذات صدقية. والأكيد أن افضل وسيلة لترجيح حل سياسي حقيقي تكمن في مواصلة دعم المعارضة عسكرياً لتتمكن من تشكيل ضغط أكبر على النظام، فالمساران مترابطان ولا يعطل أحدهما الآخر.
* كاتب وصحافي لبناني