صحيح أن رئيس الجمهورية الأميركي ليس ملكا تقليديا، ولكنه كالملك في قدرته على تسيير الأمور، هكذا خرجت من قراءة لكتاب كوندوليزا رايس، السمراء التي كانت مستشارة للأمن القومي في إدارة جورج بوش الأولى، ووزيرة خارجية في الدورة الثانية. وقراءتي للكتاب المعنون بـ«أسمى مراتب الشرف»، كانت من أجل فهم بعض آليات ما يحدث في الدولة العظمى، خاصة أن مؤلفة الكتاب عاصرت الأحداث الكبرى في مطلع القرن الحادي والعشرين، من مكان يتيح لها متابعة لصيقة للقرار وخلفياته.
مجموعة من الحقائق تلفت الانتباه، منها أن الرئيس الأميركي - حتى لو جاء خليفة لشخص من حزبه - هو الذي يقرر السياسة الخارجية، حسب معتقداته، وفهمه للأمور، وقناعاته السابقة، وأيضا خبرته، يريد أن تكون له سياسة معروفة باسمه. صحيح أن هناك جهازا من المستشارين والخبراء جاهزون لتقديم النصح والمشورة، إلا أنه في النهاية يقرر ما يريد! تلك حقيقة تختلف عما رسخ في أذهان كثيرين من أن الولايات المتحدة لها «سياسات ثابتة»، في كل الأمور، بصرف النظر عمن هو الرئيس!
في موضع آخر، يستشف القارئ أن «العلاقة الشخصية» بين الرؤساء في دول العالم لها أهميتها وثقلها في كيفية سير الأمور بعد ذلك، فتجد في الكتاب حرص المسؤولين حول الرئيس (في هذه الحالة جورج بوش الابن) على أن تهيأ كل الفرص من أجل لقاء أول ناجح بين رئيس الجمهورية وأمثاله، خاصة إن كان من الدول الكبرى.
تصف رايس اللقاء الأول المحفوف بالمخاطر بين بوش وتوني بلير، الذي كان يؤرق المحيطين لعدة أسباب، أولها شخصية بلير المجربة، وثانيها الحميمية التي كانت تربط توني بلير بالرئيس الأميركي السابق لبوش، بيل كلينتون، وجاء اللقاء ناجحا. ولكن في لفتة لا تخفى على القارئ، تقول رايس إنه خلال زيارة بوش لبلير في بيته الريفي بالقرب من لندن، لاحظت صورة تجمع بلير وزوجته وكلينتون وزوجته موضوعة مع بقية الصور، وقالت في نفسها: لماذا تبقى الصورة هناك؟! في إشارة إلى الحساسية الإنسانية التي لا يتخلص منها البشر حتى لو كانوا رؤساء جمهوريات. وتسهب رايس في وصف العلاقات الشائكة بين «الكبار» في الإدارة بسبب خلافاتهم السياسية؛ على سبيل المثال العلاقة بين وزير الخارجية في الدورة الأولى (كولن باول) ومعاونيه، وبين وزير الدفاع (رونالد رامسفيلد) ومعاونيه، إلى درجة أن الكلام المباشر بينهم في بعض الأوقات قد تقطع! تلك الصفات الإنسانية التي قد تحدث في أي علاقة، يكون حدوثها بالشكل والعمق الذي وصفته رايس أمرا مستغربا في دولة تؤمن بالمؤسسات.
في بلاط الرئيس عدد قليل هم أفراد منتخبون، الباقي جيش من المستشارين، إلا أن بعضهم لا يتردد في الاستقالة أو التهديد بها عند الاختلاف مع الرئيس، ووقتها إما أن يخضع لرأيهم اقتناعا أو كرها أو لمنع فتح كوة من الخلاف، تدخل منها سموم المعارضة أو النيران الصديقة!
مثال لافت تعرضه الكاتبة مع فلاديمير بوتين، في اللقاء الأول بينه وبين بوش الذي عقد في 16 يونيو (حزيران) 2001 في شمال يوغوسلافيا، تقول: «وبعد القلق الذي صاحب التحضير للقاء، كونه الأول للرجلين، خلال الاجتماع.. أثار بوتين - وعلى نحو مفاجئ ودون مقدمات - مشكلة باكستان، وأدان دعم نظام برويز مشرف، بسبب دعمه للمتطرفين، وذلك الارتباط بين الجيش والمخابرات الباكستانية وطالبان و(القاعدة)، وقال: (إن هؤلاء المتطرفين يتلقون التمويل من بعض دول الخليج، وإنه في وقت قصير جدا سينتج عن ذلك كارثة كبرى..)»!! هذا الكلام الذي تعرضه رايس حدث قبل أقل من 3 أشهر من موعد الكارثة الكبرى التي حدثت بعد ذلك، وهي 11 سبتمبر (أيلول) في نفس العام، والتي غيرت بشكل جذري موقف الولايات المتحدة ومعها العالم في كثير من القضايا.
المهم هنا هو أن ما نبه إليه بوتين ووصفه بـ«الكارثة الكبرى»، لم يقع على سمع الإدارة الأميركية بوضوح، كما قالت رايس.. وقد أرجعت ذلك إلى تعصب الروس ضد الباكستانيين! الأغرب هو ربط ما قررته رايس من أن الروس - وهي خبيرة في ملفهم - لم يعودوا الاتحاد السوفياتي؛ دولة عظمى كالتي كانت، إلا أن الإدارة الروسية لها حنين إلى ذلك الزمن!
عند ربط تلك الأحداث اليوم؛ الحنين إلى الزمن السوفياتي والخوف من الإرهاب، نستطيع أن نتعرف على جذور حقيقية لموقف روسيا مما يحدث في سوريا على سبيل المثال؛ فهناك خوف قديم من الإرهاب وتمويله الذي قد يعيد الروح المناهضة للروس في بلاد مجاورة لها، وقد عانت هي من بعض جروحه الغائرة، وكذلك نوستالجيا (الحنين) الروسي للقوة العابرة السوفياتية التي كانت تشارك في تقرير مستقبل العالم، ذلك يضيف إلى فهمنا للموقف الروسي اليوم، خاصة أن رجاله لم يتغيروا!
من متابعة تفاصيل المذكرات، نستشف أن الدولة الكبيرة أميركا تبحث في الغالب عن قناة خلفية للاشتباك مع المشكلات القائمة، فهناك قنوات خلفية تقوم بها مؤسسات الدولة الأميركية، إما للاتصال أو جمع المعلومات، وبعضها مضحك! فقد قررت إدارة بوش أن تساعد المعارضة الأفغانية للإطاحة بطالبان بأي ثمن، ونالت مساعدة الروس الذين يعرفون المنطقة ولهم فيها ثارات سابقة من أجل المساعدة في تليين مواقف الجمهوريات المحيطة بأفغانستان، والمساعدة في الإمداد الذي تحتاجه الحرب، وعندما تأخر هجوم التحالف الشمالي، وقد كان الهجوم الأميركي قد بدأ، قلقت الإدارة من هذا التأخير، واتصلت رايس بالقناة الخلفية التي تتعامل معها في روسيا، وهو ضابط كبير، فقال لها منزعجا إن الأفغان يريدون وسائل نقل كافية لجنودهم، ولما قالت: لماذا لا توفرونها؟! قال: ومن أين آتي بالعدد المطلوب منهم؟! إنهم يريدون عددا كبيرا من الحمير! تعلق رايس بالقول: «في الوقت الذي يحارب فيه جنودنا بأفضل ما تقدمه التقنية، ينقص حلفاءنا حمير»!
في موضوع الشرق الأوسط، لا تستطيع أن تتبين وجهة واضحة للكاتبة، مع ميل لا يوارب إلى إسرائيل التي زارتها كأكاديمية قبل دخولها الإدارة السياسية العليا. تعرض قلق الإسرائيليين من محاولات كلينتون (الإدارة التي سبقت مجيئها) في كامب ديفيد جمع الفلسطينيين والإسرائيليين، تقول: علق البعض وقتها في إسرائيل: تُرى كيف ستكون الحياة من دون النزاع «العربي - الإسرائيلي»؟!
تضيف أن هشاشة الحالة الأمنية الإسرائيلية تركت انطباعا لا يُمحى في ذهن جورج بوش عند زيارته لها قبل سنتين من وصوله إلى الرئاسة! كما تصف إسرائيل بالوصف المعتاد «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وتتحدث بازدراء حول شخصية ياسر عرفات المراوغة، التي تضع إدارته «قدما في الإرهاب، وقدما في الفساد»! كما قالت إن بوش يرى فيه «رجلا إرهابيا ومخادعا».
بهذا الانطباع لم يكن بالإمكان حصول أي فهم أو تقدم للقضية الفلسطينية في إدارة بوش، وزادها صعوبة بالطبع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بعد 9 أشهر من وصول الرئيس إلى البيت الأبيض، إلا أنها تعود لتوصيف قرار بوش بعد ذلك بالاعتراف بدولتين بأنه قرار تاريخي، وتعلق: «أي جهود للسلام تعتبر غير كافية في نظر الأطراف العربية!!».
على الرغم من الحديث المسهب لرايس في مذكراتها عن الإرهاب والجهود الكبرى التي صاحبت التحضير لحربه، ومستوى التأثير الذي أحدثته هجمات سبتمبر على النفسية السياسية الأميركية ومؤسساتها، تتجاهل رايس المسكوت عنه، كما تتجاهل أنفها، بأن جذوره ذلك القهر الإنساني الذي ألم بالفلسطينيين في نصف قرن من الزمان! مع إشارات لا تخطئ لقوة اللوبي اليهودي!
تنتهي رايس بدروس كبرى من خلال تجربتها، بالقول إنها تنبهت إلى بناء ما يمكن أن يسمى أكاديميا بـ«المأسسة الجديدة»، أي أهمية قيام المؤسسات في العمل العام وتناغمها، وهي دروس قد يستفاد منها أيضا في عالمنا. لا أخفي في النهاية أن الزيارة إلى بلاط الملك الأميركي قد وضعت أمامي حقائق يمكن لمؤسساتنا - إن وجدت - أن تستفيد منها.
آخر الكلام:
من الطرائف أن طول الكوريين الشماليين - بسبب نقص الغذاء - هو أقل من طول الجنوبيين بخمس بوصات.. إنها الآثار غير المحسوبة للسياسات المستبدة!