هناك اليوم ما يشبه الموضة الدارجة: إنه نقد الإسلاميين.
والحال أن هذا النقد مطلوب ومحترم، بل نبيل حين يصدر عن قوى وأصوات شاركت في ثورات بلدانها أو أيدتها ودافعت عنها. يصح ذلك خصوصاً في أولئك الذين سبقوا الإسلاميين إلى الثورات، ولم يدفعهم دخول الإسلاميين إليها إلى الخروج منها، فحين صعد الإسلاميون، أو كُتب لهم الفوز الانتخابي، استأنف هؤلاء نشاطهم الثوري ضد الإسلاميين، دافعين ثوراتهم إلى محطة أعلى وأرقى.
في عداد أولئك يقف ليبراليون ويساريون، كما تقف ناشطات وناشطون يعرفون أن أفق الإسلاميين مسكون بالنيات التوتاليتارية، والرغبات النكوصية، وأنه في أحسن الأحوال، لا يتسع لحريات النساء والمبدعين والأقليات، كما يهدد النسيج الوطني للبلدان، وأنه لا بد من استبداله سلمياً وديموقراطياً بأفق أرحب. إلا أنهم يعرفون أيضاً أن تلك الثورات، بإسقاطها الاستبداد، هي ما فتح الباب لنضالاتهم المكملة والمتوجة، مثلما فتح الباب لخصومهم الأيديولوجيين الإسلاميين.
خارج هذه الدائرة تتناثر بيئة من نقاد الإسلاميين الذين اكتشفوا فجأة أن الحبيب بورقيبة كان إصلاحياً وذرفوا الدمع على إصلاحاته التي يحاصرها الإسلاميون اليوم. وهؤلاء ينتسبون إلى تراث لم يفعل غير تشويه صورة الزعيم التونسي الراحل والتشهير به، بذريعة أنه من «أعوان الاستعمار»، وأنه طالب بالعودة إلى قرار التقسيم في 1947. وغني عن القول إن السهام التي وجهتها الناصرية (والبعث) لبورقيبة لعبت دورها في إضعافه وإضعاف تجربته الإصلاحية.
وفي هذه البيئة نفسها ترتفع أصوات لا ترضى بديلاً عن إحداث التقدم الفوري في سائر المجالات الاجتماعية والفكرية والجنسية. بيد أن هذه البيئة إياها هي التي غضت النظر، ذات مرة، عن كل شيء كي «لا يعلو صوت على صوت المعركة». وبعض هؤلاء لم يترددوا في تأييد آية الله الخميني وثورته والسكوت عن نظريته في «ولاية الفقيه» ومواقفه من النساء والإصلاحات الزراعية، لمجرد أنه يناهض الولايات المتحدة والغرب. وتتمةً لهذا الموقف، غُضَّ النظر، ولا زال مغضوضاً، عن دينية «حزب الله» ومذهبيته، إذ هو حزب «يقاوم إسرائيل».
وبعض هؤلاء، في المقابل، هللوا لصدام حسين واستبداده حيال العراقيين وحيال جيرانهم، لأنهم عثروا فيه على مشروع بيسماركي يوحد في مواجهة الاستعمار، بعد تقسيم وتجزئة صنعهما هذا الاستعمار اللعين إياه.
وبين هذين البعضين، كان هناك، ولا يزال، من يوافق على اختزال ملايين السوريين بحافظ الأسد، ومن يزين سياسات القهر والسجون وتدمير المدن نزولاً عند ضرورات «الممانعة».
لقد تعايش هؤلاء المدافعون عن القيم الحديثة مع قيمة العبودية ومَجّدوها ولا يزالون يفعلون.
وقصارى القول إن هذه البيئة ذاتها هي التي كانت، كل مرة، ترفع راية «التناقض الرئيسي» الذي لا يجاوره ولا ينافسه تناقض آخر. وهذا الميل سبق أن اندفع مع شيوعيي مصر في 1964، ومع شيوعيي العراق في 1973، فحملهم على الانضواء في تنظيم عبد الناصر، وفي جبهة صدام حسين، وعلى تذويب أنفسهم وطيِّ صراعهم الطبقي وتمايزهم التنظيمي والأيديولوجي، استجابةً لأوامر الرفاق في موسكو.
في هذا المعنى يمكن احترام الذين يرفضون «إسلامية الثورات» بعدما رفضوا إسلاميات واستبدادات كثيرة عبرت عنها قوى وأطراف موصوفة بمناوأة الغرب، فهذا موقف قد يقال فيه إنه طوباوي أو نخبوي أو لاسياسي، إلا أنه موقف مبدئي ومحترم. بيد أن الذين انتبهوا، مع الثورات، إلى «الخطر الإسلامي»، فلا يزال مطلوباً منهم الكثير كي يبرهنوا أنهم محترمون.