مع إخراج جماعة «مجاهدين خلق» الإيرانية من دائرة الاتهام، كونها لم تعد قوى إرهابية ضمن ملفات الولايات المتحدة وأوروبا، تكتمل صورة الاستعانة بقوى خارج الدولة من أجل تقويض الدولة أو القيام بأعمال عسكرية وشبه عسكرية خارج الحساب. جماعة «مجاهدين خلق» ليست كامرأة قيصر خالية من العيوب، فلها تاريخ في المناكفة الإرهابية، ولقد عانينا منها في الكويت إبان الاحتلال العراقي، حيث أطلقها صدام حسين لمعاونة قواته في الكويت المحتلة، وقد صدر عن تلك الفترة الظلماء رواية تستحق أن تقرأ باسم «الشهداء الضالون» للكاتبة الهولندية يوديت نيورنيك، إلا أن الأمر أصبح ظاهرة في الشرق الأوسط! جماعات لها أهداف سياسية تستفيد من الفوضى القائمة أو تفكك الدولة كي تقيم «دويلتها» التي تتحالف مع هذا الطرف أو ذاك، من أجل تحقيق أهداف تسعى إليها الدولة المناصرة.
المثال الأبرز هو حزب الله في لبنان، الذي يقول علنا دون مواربة إنه تابع لإيران وتحت مظلتها، وبالتالي تستخدمه إيران في تحقيق مصالح لها، ظاهرة وباطنة، ولم يعد ذلك سرا في فضاء تفكيك الدولة اللبنانية. المثال الثاني هو ذلك الشبح غير الواضح الذي يسمى بـ«القاعدة» وهم جماعات تنشط لتحقيق أهداف سياسية بوسائل عسكرية عن طريق حمل السلاح وربما ليس بينها وبين بعضها أي صلة سوى الاسم! وهي ناشطة الآن في أكثر من مكان على رأسه العراق؛ حيث البيئة مواتية لنشاطه وكذلك الحال في أماكن أخرى منها اليمن وربما سوريا. أما الجديد على الساحة – بجانب «مجاهدين خلق» – فهو حزب العمال الكردستاني الذي ينشط الآن في تركيا، وقد كان بينه وبين النظام التركي كثيرا من الكر والفر في السابق، عندما كان في شمال العراق وجنوب تركيا، أما الآن فهو يستخدم في مكانين لغرض واحد، في شمال سوريا لمحاربة القوى المناهضة للنظام السوري بدعم منه، وفي جنوب تركيا من أجل إشغال تركيا عن النظر أو المساعدة للقوى السورية المحاربة والمناهضة للنظام السوري. كما تنشط مجموعات طائفية علوية على وجه التحديد في تركيا لعرقلة الجهود التركية من الالتفات إلى القضية السورية المتفاقمة.
ليس هنا فقط، ولكن في أماكن أخرى كثيرة من الشرق الأوسط تستخدم القوى المحلية المتباينة عرقيا أو ثقافيا أو طائفيا في تحقيق أهداف مباشرة أو غير مباشرة لقوى إقليمية تريد خلخلة الوضع الأمني أو بالاستفادة من الاضطراب الحاصل أو القصور التنموي في مناطق تلك الأقليات لإثارة حميتها تحقيقا لأهداف تلك الدولة الخارجية.
اضطرت تركيا أن تضخ كثيرا من الأموال في ميزانيتها الأخيرة من أجل دفع التنمية في المناطق المحرومة سابقا، وهي مناطق يقطنها نسبة من أكراد وعلويين من أجل إطفاء قدرة الخصوم على الاستفادة من الحرمان النسبي في تأجيج تلك الأقليات، بينما لم تفعل إيران الشيء نفسه باتجاه الشيعة العرب في غرب إيران (الأهواز) حيث تنشط جماعات تناهض الحكم الإيراني، مما قد يشكل خاصرة لينة تنشط فيها جماعات «مجاهدين خلق».
بالعودة إلى جماعة «مجاهدين خلق» ذات الجذور الماركسية المخلوطة بمبادئ إسلامية، فقد كونت لها قاعدة واسعة من المناصرين في الداخل الإيراني وفي الخارج وتنظيمها مركزي إلى درجة وصف أعضائها بأنهم «رجال آليون، كرسوا أنفسهم لهدف مقدس» ويمكن أن تسبب تلك الجماعة قلقا حقيقيا لإيران الآن بعد خروجها من دائرة الشبهة الغربية لتدخل مظلة الرعاية وربما التشجيع.
واضح أن اللعبة سوف تتسع أكثر من خلال الصدام بين القوى المختلفة في الشرق الأوسط عن طريق استخدام القوى المحلية المتضررة من الحكم في دول الشرق الأوسط أو حتى المهملة الآن من أجل إشاعة جو من التوتر الداخلي وتصعيده، شهدنا بعض نتائجه العكسية في كل من اليمن، من خلال الحوثيين وغيرهم من القوى الاجتماعية المهملة في السابق، ولكن المثال الأكثر دموية هو في الصومال التي أصبح فعل «الصوملة» فيه فزاعة تخيف الداني والقاصي.
لعلنا نعود من جديد إلى الخلاف البريطاني - الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى؛ حيث تصور البريطانيون أنه يمكن أن يستتب الأمن في منطقة الشرق الأوسط عند التعامل السياسي مع الأغلبية المكونة لمنطقة سياسية معينة، كمثل التعامل مع السنة في مصر أو سوريا، أو التعامل مع العرب في شمال أفريقيا، إلا أن الاجتهاد الفرنسي نظر إلى المنطقة على أنها تضم أقليات عرقية ومذهبية متعددة وطفق يتعامل مع الأقليات تلك. يبدو أننا في مرحلة العودة إلى الفكرة الفرنسية القديمة؛ حيث فشلت الدولة العربية المشرقية – بشكل غالب – في تكوين دولة حديثة تعامل مواطنيها على سبيل المساواة وتوزع ثمار التنمية بالتساوي. خطورة الأمر أن تخلق في كل المناطق الهشة جيوبا مستقلة بسبب عجز الإدارة ونقص الإرادة عن النهوض بالإنسان، تلك الجيوب لوحدها ربما تكون غير قادرة على الفعل العميق في السياسة المحلية، مما يضطرها لبيع ولائها لقوى خارجية، وفلسفة القضية لجمهورها، على أنها استعانة مؤقتة من أجل التخلص من الاستبداد المحلي، ولكن في الغالب تلك الاستعانة تصبح دائمة، وتؤدي إلى وقوع تلك القوى تحت مخالب الأجهزة للقوى الخارجية حتى لا تستطيع أن تتخرج من نفوذها أو تتملص من تحت عباءتها. أمامنا إذن احتمال وقوع صراعات داخلية مرتفعة الوتيرة نرى شرارها يومض عن بعد في أكثر من مكان ويقارب الانفجار، في اليمن، في الخليج، في الشام، وتركيا وإيران، وقد تعلق أيضا في مصر وبدايتها حصلت في تونس وشمال أفريقيا، مهيئة لبيئة صراع داخلي متسع، بعضها عالي الوتيرة كالشام وبعضها تحت الرماد في الكنانة، دون حسم واضح وسريع لما يحدث في سوريا يمكن أن يطال الشرر الجوار المليء بالكثير من عناصر الشهداء الضالون.
آخر الكلام:
القوى الجديدة في ربيع العرب أصبح لدى قادتها مرض يمكن تسميته بـ(الديموفوبيا) أي الخوف من الديمقراطية، فهي تريد الاحتفاظ بالسلطة واتهام المخالفين بشتى التهم التي كانت تستخدمها الأنظمة السابقة، فقط من أجل إبعادهم عن المشاركة!