طريف الانفصام الحاد في شخصية الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. ففي حديثه إلى «واشنطن بوست» يوم الأحد الماضي، يمكن وصفه بسيد المراوغة، قال إن «إدارة العالم» لا تعجبه ويجب تغييرها لتقوم على مبادئ العدل والسلام. إذا تم هذا حسب رأيه، يجب على الولايات المتحدة الأميركية أن تسحب قواتها ووجودها العسكري من الخليج «الذي أدارته إيران منذ آلاف السنين»، وبهذا، تستطيع أميركا أن توقف الإنفاق العسكري وتنصرف إلى الاهتمام بمستوى الحياة المعيشية لشعبها.
مع اهتمامه بوضع الشعب الأميركي «المزري»، تجاهل أحمدي نجاد ما سببته العقوبات الدولية والثنائية على إيران، خاصة منذ بضعة أشهر، حيث ارتفع التضخم مع نقص حاد لكل المواد في جميع أنحاء بلاده، مما دفع المسؤولين للتحذير من إمكانية وقوع احتجاجات ومظاهرات.
مراوغة أحمدي نجاد، الذي اشتهر بها، لن تخفي القلق الإيراني الذي تضاعف أكثر منذ إعلان حكومة بغداد أنها منعت طائرة من كوريا الشمالية، من عبور مجالها الجوي يوم الجمعة الماضي، وكانت متجهة إلى دمشق.
يبدو أن الأميركيين يستخدمون نفوذهم مع العراق لوقف استعمال أرضه ومجاله الجوي لشحن أسلحة إلى سوريا. وكون الأنظار تتركز على العراق، فإن نوري المالكي رئيس الوزراء يريد أن يظهر على أنه يتصرف كلاعب دولي، وليس «في السرير» كما يقولون، مع دول مارقة مثل إيران وكوريا الشمالية، إلى درجة أنه سمح لنائبه بالتصريح يوم الأحد الماضي، بأن إيران تضغط كثيرا على العراق من أجل تمرير الأسلحة عبره إلى سوريا.
وحسب مصدر مطلع، فقد أعرب كبار الشخصيات السياسية والعسكرية الإيرانية في الأيام الأخيرة، عن استيائهم العميق حول تناقص قدرة الجمهورية الإسلامية على لعب دور القيادة، الذي تسعى إليه بكل قوة، كالداعم الأول لحلفائها الرئيسيين سوريا و«حزب الله».
إسماعيل قاءآني نائب قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» قال، إنه «إذا كانت إيران غير قادرة على توفير المساعدة ذات القيمة الاستراتيجية لأقرب شركائها، فإن ذلك سوف يكون ضارا لتصدير الثورة الإسلامية التي تشكل أسس السياسة الخارجية الإيرانية!».
إضافة إلى ذلك، وحسب المصدر الإيراني المطلع، فقد أعرب عدد من أعضاء لجنتي الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، وفي جلسات مغلقة عن قلقهم لأن «فيلق القدس» صار معرضا في الكثير من الجبهات من حيث عمليات إمداده بالأسلحة. لكن تم إبلاغ أعضاء مجلس الشورى، أنه نظرا لحساسية هذه القضية، فيجب ألا يتم طرحها علنا، وأعطوا تأكيدات من قبل مستشار سياسي بارز للمرشد الأعلى (آية الله علي خامنئي)، أن هذه القضية يجري التصدي لها من خلال مكتب القائد بالاشتراك مع «فيلق القدس» مباشرة.
لكن هذا، لن يوقف الضرر الذي ألحقته تصريحات الجنرال محمد جعفري قبل مدة والتي أكد فيها (بالصوت والصورة) وجود قوات من «الحرس الثوري – فيلق القدس» في لبنان، الأمر الذي أحرج حليفه الرئيسي «حزب الله» في لبنان، إذ فتح عليه بابا من التساؤلات لن يغلق إطلاقا بعد اليوم، حتى وإن نفى كل المسؤولين الإيرانيين هذا الأمر، خصوصا أن سياسة الصمت التي يعتمدها «حزب الله» في هذه الحالات، لم تعد ترضي أحدا. وفي حالة الكشف الإيراني عن وجود «الحرس الثوري» في لبنان، تصرف الحزب وكأنه ليس معنيا بالأمر، عل المسألة تذهب في طي النسيان، ويبقى «الحرس الثوري»؛ حيث كان منذ سنوات طويلة، في «المربعات الأمنية».
لسنوات كثيرة، نقلت إيران معدات عسكرية متطورة وأسلحة حديثة إلى سوريا على متن طائرات ركاب مجدولة، وبرا بواسطة الشاحنات عبر تركيا. لكن، منذ بدء الانتفاضة الشعبية في سوريا أوائل عام 2011، لم تخف أنقره عداءها للنظام السوري، وكجزء من هذا العداء فإنها منعت تماما استعمال أراضيها كممر لعبور الأسلحة الإيرانية إلى القوات النظامية السورية.
فشل الإيرانيون مرات عدة في محاولاتهم نقل الأسلحة عبر تركيا، بما في ذلك احتجاز شحنة لها على المعبر الحديدي «كيليس» بين تركيا وسوريا في شهر أبريل (نيسان) 2011. إضافة إلى ذلك، أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن تركيا صادرت سفينة تحمل الأسلحة إلى سوريا، وتبين أن مصدر الأسلحة إيران.
للتعويض عن خسارة القناة التركية، بدأت قوات «فيلق القدس» ومن جديد، بنقل الأسلحة والمعدات اللوجيستية إلى سوريا عن طريق الخطوط الجوية الإيرانية، وخطوط «ماهان» التي تمر كلها فوق العراق بعدما كانت كل الرحلات علقت في بداية هذا العام.
أعيد استئناف هذه الرحلات، بعد الضربة الأمنية التي تلقاها النظام السوري بمقتل ثلاثة من كبار القادة: داود راجحة، آصف شوكت، وحسن تركماني في انفجار في مركز الأمن القومي في دمشق يوم 18 يوليو (تموز) الماضي.
وحسب المصدر الإيراني المطلع، فإنه عبر هذه الرحلات وتحت غطاء أنها رحلات ركاب عادية، نقلت إيران كميات كبيرة من الأسلحة، وكذلك عددا من عناصر «فيلق القدس» لمساعدة قوات الرئيس السوري بشار الأسد على قمع المظاهرات والمجموعات المتمردة. وكان اللواء السوري عدنان سيلو، الذي انشق عن النظام تحدث منذ أيام إلى صحيفة «التايمز» البريطانية، عن دور «الحرس الثوري» الإيراني في الاجتماعات التي تغطي حتى كيفية واحتمال استعمال النظام السوري للأسلحة الكيميائية. وقال إن ضباط «الحرس الثوري» موجودون ويشيرون ويناقشون ويحددون.
وبناء على روايات شهود عيان، تأكد - حسب ما نشرته مجلة «ديرشبيغل» يوم 18 من الشهر الحالي - وجود لـ«الحرس الثوري» خلال اختبار سوريا لتسليم نظام الأسلحة الكيميائية في مجمع «السفير» بالقرب من حلب، ويظهر هذا أن التعاون السوري – الإيراني يشمل أسلحة استراتيجية شديدة الحساسية.
تساعد إيران أيضا النظام في دمشق عن طريق إرسال الشاحنات برا عبر العراق، بطريقة مماثلة للتي كانت تتبعها في تركيا. هذه الأنشطة يتم التنسيق لها مع السلطات العراقية. وفي بعض الحالات دفعت إيران رشاوى كبيرة لمسؤولين عراقيين، وفي حالات أخرى يتم إعطاء المسؤولين العراقيين حصة من مبيعات الأسلحة وغيرها من أنشطة التهريب، مقابل تعاونهم.
ومع ذلك، بدأت خشية الإيرانيين؛ لأن هذه القناة العراقية بدأت تتعطل. إذ تعرض نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي لغضب أميركي، بعدما تبين أنه وافق على غض الطرف عن طبيعة البضائع التي تحملها الطائرات الإيرانية التي تحلق فوق العراق، وذلك لمساعدة إيران. وبعد أن انكشف التواطؤ العراقي اضطرت بغداد للإعلان عن أنها ستشارك في الجهود الإقليمية والدولية لمنع مثل هذه الشحنات من المساعدات العسكرية.
من ناحية أخرى، يعتقد أعضاء في اللجان البرلمانية الإيرانية، أن إيران في حاجة إلى اعتماد أساليب جديدة لإيصال الأسلحة إلى النظام السوري؛ لأن كل الطرق البحرية والبرية والجوية الحالية صار يصعب اعتمادها كوسائل نقل مضمونة للأسلحة، وكشفوا أيضا، حسب المصدر الإيراني المطلع، كيف أن أجهزة الاستخبارات في دول الخليج العربية كثفت من أنشطتها في المراقبة المشتركة في ما بينها لإلقاء القبض على الإيرانيين المتورطين في تهريب الأسلحة إلى سوريا و«حزب الله» ومجموعات شيعية أخرى تنشط في الخليج، والشرق الأوسط وأفريقيا. هم قلقون أيضا من عمليات أمنية بحرية جديدة تجري لفضح شركات وهمية يستخدمها «الحرس الثوري» لإخفاء وتمويه شحنات أسلحة على متن السفن التجارية الإيرانية وحاويات الشحن، ثم إن الوضع يزداد تحديا؛ لأن «الحرس الثوري» بحاجة إلى موارد إضافية لمواصلة تقديم الدعم لحلفاء إيران؛ لأنهم يشكلون عنصرا حاسما في «العقيدة الدفاعية» للجمهورية الإسلامية.
لو أن السجادة الإيرانية التي قدمها أحمدي نجاد إلى بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة، كانت «البساط السحري» الذي تحكي عنه الروايات، لنجح أحمدي نجاد في تغيير «إدارة» العالم، واستمرت إيران في تهريب الأسلحة إلى النظام السوري، لكنها ظلت سجادة إيرانية غالية الثمن فقط!