كيف نميزبين عقلية متفتحة وبين عقلية متزمتة لا بقصد التفريق بين الناس لتمييزهم التفضيلي عن بعضهم البعض وإنما لاختيار من منهم يمكن الركون إلى رأيه والثقة بالعظة التي تمرس عقله بها بخبرته المنفتحة على مختلف الآراء والمواقف. ؟
ارتباط الحدث بالزمن الذي يقع الحدث فيه من العلاقات التي تدرك بالعقل المنفتح على التجربة الذاتية وعلى تجربة أقرانه والآخرين من الناس في مختلف الأماكن للتوصل إلى استنتاجات موضوعية .والزمن يدور في حلقة خاصة به ولكنه لا يُدير الأحداث ولا يكررها إلا فيما ندر.وحلقة الزمن شديدة الخصوصية منفردة النوعية كونها لا تربط نفسها بحدث تقف عنده أو تتمهل في دوران عجلتها متأثرة به أو محتكمة إلى شدةالحدث أو نوعه .انتظام دوران عجلة الزمن دون اعتبارلما يجري حولها ودون أن تتأثر بما يحدث لا يجعل من الزمن مادة حيادية,لإن الزمن يحدد انتظام الكثير من الظواهر الطبيعية اليومي واللحظية,كتعاقب الليل والنهار وتغير الفصول وتبدل الحالة الجوية ودوران الكواكب وما تحدثه من تقلبات في الطبيعة شديدة الانتظام محكمة الدقة في تعبيرعلمي جلي عن عظمة الخالق في تنسيق علاقات المخلوقات وفي النظم الكونية التي ما زالت تشكل التحدي الأعظم لعقل المبدعين من البشر. والإبداع في تجلياته يأخذ عامل الزمن في حساباته ولا يهمل أي جزئية منه وفي برامج أبحاثه ودراساته. والزمن من هذه الزاوية مرجعية لا رجعة فيها أو في أي جزء منه,وتكرار دوران الزمن بنفس التردد وذات السعة بانتظام لا يعني على الإطلاق انتظام تكرار الأحداث التي يصنعها البشرأو يتسببون بصنعها,والتي تخرج عن نطاق الظواهر الطبيعية المنتظمة.
لا علاقة إذن للزمن بما يحدث من أحداث ( وليس الظواهرالطبيعية) من قريب أو من بعيد ,ولكن العلاقة وثيقة بين ما يحدث وبين زمنه,أي إن مسارهذه العلاقة باتجاه واحد,بإعادة الحدث إلى زمن وقوعه, ولا نعيد الزمن إلى وقوع الحدث. إن ما نسميه بالتاريخ وأحداثه مرتبطة بزمنها بعلاقة مكان وعلاقة زمان,حيث يكون مسارعلاقة المكان بالحدث باتجاهين,أم علاقته بالزمن فهي باتجاه واحد كما أسلفنا,وهذا ما نمارسه في ثقافتنا وفي مرجعياتنا التاريخية ودراسات التراث وتحديد معالمه وصلاح تداولها.
يتشكل التراث من جملة من الأفكاروالمبادئ والمواقف والمنتجات المادية والثقافية والفكرية والعلمية ومخرجاتها والدورالذي لعبته ( وما زالت تلعبه ) هذه المنتجات والمخرجات في تاريخ شعب ما ( وحاضره) عبر مراحل زمنية متفاوتة في مستوى الإنتاج من تلك العناصرونوعيته وملاءمة لتطورالوسائل الإنتاجية وأدواتها وخلفياتها الفكرية ودوافعها الاجتماعية والسياسية. وهنا يحضرنا تساؤل فكري- ثقافي- أخلاقي يفرض نفسه من منظور حاضريمتد إلى المستقبل ما لم تضع الحضارات الإنسانية لهذا التساؤل حدا يخفف من وطأة علاقته السحيقة بالزمن دون أن تجد له الإنسانية حلولا أو إجابات ملموسة ومقنعة ,ومحتوى هذا التساؤل هو:-
ماذا جدد الإنسان في مساره الفكري ومجاله الثقافي على المدى الطويل,من مصطلحات وأفكارومدلولات ومعان إضافية وتوضيحية,وقيمية وأخلاقيىة ومسلكية على ما ألفه من مصطلحات درج على استخدامها منذ ألاف السنين وحتى يومنا هذا,منها على سبيل المثال لا الحص,مصطلحات الحرية,العدالة السلام,الحرب,الخيانة,الديمقراطية,المساواة,الخير, الشر,المعرفة,المواطنة, الحقوق والواجبات الفقر والغنى ,السياسة , الثروة ... وغيرها ؟؟.
نستطيع القول بأن التجربة العملية التي أخذت بها حضارات الإنسان أيا من هذه المصطلحات بخلفيتها الفكرية وقيمها التراثية ومدلولاتها الأخلاقية لم تبدل في جوهر معنى أي منها أو ضرورته أوأهميته المعيارية في قياس درجة التحضر ومستوى الترقي الذي وصلت كل حضارة إليه.وإنما أضافت أشكالا وأفسحت مجالات جديدة وافتتحت محاور جدلية ونقدية بناءة متساوقة مع متطلبات تطورالأمم وتطويرالأساليب والوسائل التي أخذ بها المجتمع التقني يمارس حياته بالركون إليها وإلى نتائجها العملية التي أخذت العبرة من علاقتها بالزمن وملاحقة الابتكارات والاكتشافات والاختراعات التي تسهل عليها سبل المنافسة مع المجتمعات الأخرى في سباق مع الزمن من جهة ,ومع قدرة أبنائها الإبداعية من جهة ثانية ومع منافسيها بطبيعة لحال من جهة أخرى لجني المزيد من ثمار العلم والمعرفة واختزان مصادرالقوة وتحقيق الغلبة في ميادين الصراعات الدولية العسكرية والأمنية والثقافية والفكرية , والمهابة في تقريرمصير الأحداث العالمية وتوجيه مساراتها فيما يخدم مصالحها ويحافظ عليها.
للتراث الإنساني مرجعية تاريخية اختلفت أعرافه ومضامينه باختلاف المعتقدات الإيمانية والعلاقات الاجتماعية ومكوناتها العرقية والقومية,والأوضاع السياسية ونظمها وخلفياتها العقائدية,والثقافة التي سادت ومرجعياتها العلمية والمعرفية وآدابها وفنونها وقيمها وتقاليدها.ولا يخلو تراث أمة من الأمم من مزيج من القصص الواقعية منها والخيالية, والوقائع الحقيقية منها والوهمية, ومن حكايات تستند إلى الحث على رفع المعنويات والحث على الشجاعة والبطولة والوفاء للقوم وللعشيرة وللوطن ... وعندما تتوقف قدرة الإنسان العقلية على النقد والتحليل,وتغلق منافذ تنوير عقليته بتنحية الثقافة المحدثة بالمعارف الجديدة, وتجنب البحث عن أسباب المعاصرة والتقدم والركون إلى تراث أنجب عبقريات تعاطت بثقة مع أحداث زمنها ومبتكراته وتداولت معارفه وكأن الزمن قد توقف عند ذلك والسعي لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء, وعكس اتجاه دورانه واستحضار تراث ذلك الماضي والاعتماد على ما صلح فيما مضى بأنه يصلح في الوقت الراهن توقف عن مجارات التقدم وعن ملاحقة مستجدات المعرفة ومبتكرات التقنيات ومخترعات العلوم وتحديث الوسائل وربطها بمعايشة زمنها.وهذا هو الحال الذي يمكن أن نسميه جلاّب التخلف ومعاند تيارالترقي.
ونكررالتعبير عن هذه الحالة التي يسعى فيها المرء إلى الوقوف بوجه اتجاه دوران عجلة الزمن بالقول :-
إن العودة إلى التاريخ عملية ضرورية وسهلة المسالك والطرق ومنعشة للثقافة ومحفزة على التقدم ,أما العودة بالتاريخ فهوعمل شاق وجهد مضن وعبء ثقيل يعكس حالة إحباط تُعجز العقل