من بدهيات االممارسة الديمقراطية في المجتمع ,الحرية التامة للتعبيرعن الرأي والإفصاح عن الفكر والقبول الطوعي بالنقد بكل أشكالها ودون تحفظ على أي من أشخاصها السياسيين والزعماء المتصدين لمهام العمل العام مهما كان موقعه وأيا كانت صلاحياته. وكم كان منا من يُدهش عندما يرى أو يسمع عن الحوارات النقديةاللاذعة المباشرة والتجليات في رفع الشعارات الحادة بمعانيها القاسية في الحراكات والاعتراضات الشعبية على قرارات الحكومات ومواقفها من القضايا العامة في دول الديمقراطية الفعليةالتي تطال القادة والزعماء ومتصدري العمل العام.هي بالفعل حرية مطلقة , وقبول السياسيين والقادة والزعماء بها قبول مطلق دون تحفظ أو اعتراض بحجة ضرورة احترام الزعيم أوالرئيسالمنتخب, ومثل هذا الاعتراض ماهوإلا دعوة نابعة من رواسب الفكرالتقليدي الشمولي وأنيميا التقاليد الديمقراطية الذي يجعل للفرد مقاما فوق مقامات المواطنين,ومنزلة تفوق منزلة أيا منهم بحكم المركز الذي يشغله وليس بالرجوع إلى كفاءته وقدراته الفردية والشخصية المقارنة مع مثيلاتها من أبناء جلدته.
الرئيس, رئيس الدولة ليس شخصا نتبرك بمقولاته ونسبح بحمد الله على عطائه ونطيع الأمر من ولاته,والتعبيرعن إرادة شعبه الذي انتخبه.الدرئيس في الدول الديمقراطية,رئيس شرعية دستورية وقانونية وليس رئيس شعب بالمعنى الحرفي الي يتلذذ الرؤساء العرب بالتنادي به !,بل هوريئس يمثل الدولة سياسيا ودبلوماسيا وبروتوكوليا,ولا يحق له الادعاء بأنه يمثل الشعب وإرادته , ومجرد القول بذلك فيه تجاوز فج على أبسط مبادئ الديمقراطية,وتخط لصلاحياته الدستورية,وجهل في المعايير الديمقراطية وأسسها.هذا عدا عن القفز فوق حقائق مكونات المجتمع وتجاهل قواه وتياراته العديدة واقعا وموضوعيا.
الشعب,أي شعب في أي موطن,له مكونات متعددة على مختلف الصعد والانتماءات والمعتقدات والولاءات, ولهذا للشعب تكون عدة إرادات وليس إرادة واحدة ,وللشعب العديد من الرغبات وليس رغبة واحدة , ونتحدث بأهداف الشعب ولا نقول هدف الشعب, ونسعى لتحقيق مطالب الشعب, وليس مطلب الشعب. وإدراك ذلك أبسط بكثير من محاولات تجاوزه وأيسر كثيرا من التغاضي عن حقيقته,وأفضل كثيرا من الالتفاف على معانيه وتحريف مفرداته.
كثيرا ما من علينا الرؤساء والزعماء والقادة بمختلف التسميات والألقاب وغيرهم من السياسيين بمنحنا مساحات من حرية التعبيرعن آراءنا وإفراغ مكنون فكرنا علنا وجهارة,مستشهدين بذلك على إيمانهم بالديمقراطية, وهم بطبيعة الحال ليسوا كذلك ,مستغلين مثل هذا الوضع للتدليل على حقهم في تمثيلهم لشعوبهم والتعبيركيفما شاؤا عن إرادته لتبريرمواقفهم السياسية,وبرامجهم الاقتصادية وشرعيتهم الدستورية , وهذا كله مخالف لأبسط قواعد التمثيل الشعبي ,فكيف يمكن لهم الادعاء بأنهم إنما يعبرون عن إرادته ( إرادة الشعب)علما بأن بعضهم لا يحكم بموجب دستور مقر حسب الأصول الدستورية التي تقربأساليب مهنية ومشاركة توافقية تنتسب إلى المعايير الديمقراطية , وإن وُجد لدى البعض من الدول شبه دستورفإنه مجرد صياغة بلا دلالة ومرجعية مهملة إهمالا قبيحا.
ولا يفوتنا أن نشير إلى إن بعض المفاهيم المعاصرة في المرجعيات السياسية وسياسات الحكم والسلطة, يميز بفروق واضحة بين – الشرعية الدستورية – وبين ادعاء – الشرعية الشعبية – للرئيس الزعيم المحافظ رئيس البلدية القادة الحزبيون والمدنيون في النقابات والجمعيات والمؤسسات والمنتديات المدنية .فلم يعد رئيس منتخب بأي نسبة كانت من الذين يحق لهم التصويت , أنْ يفعل مايشاء وما يقرر إنه يخدم المصلحة العامة دون الرجوع إلى الهياكل المؤسساتية المبنية ضمن أسس الديمقراطية ومبادئها, ويعين من يشاء ويؤدلج السياسية حسب مرجعيته الحزبية ,ولايحدث هذا في المجتمعات الديمقراطية (لا ننسى إن اللامركزية إحدى أسس الديمقراطية) الفعلية,أما في الدول شبه الديمقراطية فما زالت العقائد الشمولية تتخبط في مرجعياتها بين أدبياتها التي لا تعرف كيف ترتقي إلى ثقافة العصر وبين أدبيات الديمقراطية التي تدعي إنها تتبناها.وهكذا هو حال العبث بالمفاهيم الديمقراطية وقيمها.
ولما كانت حريتا الرأي والتعبيرمن الحريات الأساسية للمواطن , وتُعدا جوهرة الحقوق التي يجب أن لا يجردهما أحد,لا سلطة ولا قرار من معانيهما الواضحة والتي خبرتهاالحضارةالإنسانية البدائية مذ كان الإنسان يسعى إلى التغلب على معاناته مع أعدائه من مكونات الطبيعة وظواهرها ومن المخلوقات الحية المتمثلة بالوحوش الكاسرة والحيوانات الغادرة ,والصراعات التي قتل الإنسان فيها أخيه الإنسان دون رحمة أو شفقة وهو يدرك ما يفعله إدراكا واعيا ويقظا بتعمد وعن قصد,فإنه من غير الحكمة أن يتعرض أحد إليهما بالتحديد والقضم والتخويف من عاقبتيهما القانونية والشخصية,سواء كان هذا الأحد رئيسا أو قائدا أو زعيما أو مديرا أو سيدا من أي شكل من أشكال السيادة وأي نوع من أنواع الأسياد,وذلك لاستحالة قدرة منع هذه الحريات أو لجمها أو وأدها في مهدها.
بدأت الحركة الإعلامية بالصحافة المكتوبة, والإشاعات الهادفة التي تقع كل منهما تحت السيطرة والتحكم والتوجيه والاستهداف الرسمي .ولحقت الإذاعات تلك الوسائل وظلت كلها تحت إدارة السلطة الحاكمة تنشر من خلالها ما تريد من المواطنين سماعه, وأدارت عملية نقل المعلومات بطريقة فنية تخدم أهدافها وتضلل الرأي العام كيفما شاءت وتحاول صنع رأي عام مطيع لها ومؤيد لسياساتها. ولكن انتشار وسائل المعلوماتية الحديثة وأدواتها وأجهزتها التي تنقل الحدث مباشرة بالصوت والصورة والتي لأصبحت في منأى عن تحكم أي جهةرسمية بها ,أتاحت لكل فرد أن يقول ما يشاء وأن يكتب ما يشاء عمن يشاء دون تردد بحرية تامة وتعبير بالقلم وبالصوت والصورة دون حدود أو محددات.
فشلت الأنظمة السياسية بكل أشكالها ومختلف أنماط نظمها في القدرة على التحكم بوسائل المعلوماتية وأدواتها فلم تجد أمامها إلا الوقوف عاجزة عن التصدي للرأي والقول , ووجد الفرد أمامه وسائل متاحة ببدائل عديدة أعجزت أي قوة على التحكم بها أو منعها ومنع اتشارها على المستوى الدولي بجزئية من الزمن لا تدركها أي وسيلة لمنعها أو حجبها.وهكذا فقد ازدهرت حريتا التفكيروقل ما تفكر به دون تردد والتعبيرعن رأيك فيما يجري حولك أو بعيدا عنك بازهار وسائل الاتصال الآني والتواصل مع الآخر أينما كان !.
وبعد أن كان الخوف يدب في قلوب المعارضين والناشطين السياسيين من إبداء آراءهم والتعبيرعن مواقفهم إزاء قضاياهم ,أصبح القلق يعبق في عقل السلطة فيربكها,والخوف يحد من أساليبها القمعية والترهيبية تحسبا من الانكشاف أمام شعبها ضعيفة متهاوية,وأمام عالم اليوم الذي تتصدى فيه مجموعات مؤثرة لحقوق الإنسان والدفاع عن الحريات عاجزة عن تبرير سلوكها القمعي والتعسفي.