من تجربة طويلة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين واستخلص فـقهاء التحليل السياسي لقيام الثورات الشعبية السلميةأوالمسلحة لتحرير البلاد من قوى الاستعمارالأجنبي, او التخلص من أشخاص النظام الحاكم واستبداله بأشخاص جدد أوالانقلابية العسكرية (نكني لها بالثورة لتسهيل عرض الفكرة الأساسية من هذا الموضوع ) ,مقولة تأكل الثورة أبناءها وذلك تلخيصا لأحداث وقعت بعد نجاح الثورة حيث يدب الخلاف المبيت أو المستحدث بين القوى التي قامت بالثورة وشاركت في مراحلها منذ بداية التخطيط لها أوفي مرحلة لاحقة تسبق تنفيذها.
ولنا في تاريخنا العربي الحديث منذ بداية الخمسينيات من القرن المنصرم,عديدا من الأمثلة الحية في مصروسوريا والعراق واليمن والجزائر والتي ما زالت أحداثها في ذاكرة أجيالنا الحالية ماثلة وشاهدة حية على ما وقع فيها من أحداث انقلب فيها بعضها على بعضها الآخروما جرى من تصفيات لبعض عناصرها والمشاركين فيها والفاعلين من ساهموا لإي إنجاحها.نجد مصداقية مقولة الثورة تأكل أبناءها مترجمة في أحاث كل تلك الثورات دون استثناء.
اما فيما يتعلق بالحراكات الشعبية الحديثة التي أدت إلى تغيير نظم الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا وإلى ما حدث في اليمن من تحريك وهمي لمراكز السلطة,وعلى ما يجري من حراك سلمي قوي ومؤثر في البحرين مطالبا بالإصلاح أحيانا وبصرخة الشعب يريد تغيير النظامالمدوية التي بدأها ثوارتونس ورددها من بعدهم ثوارمصر, وما يجري في السعودية من حراك تتزايد وتيرة تأثيره ومداه , والحرب المعلنة على سوريا من تحالف دولي تقوده سيدة الحروب الفاشلة الأميركية يتبعها بقايا الإمبرياليين الذين أفل نجمهم, وبدأت بلدانهم في التراجع إلى بلدان من الدرجة الرابعة والخامسة ( الانجليز والفرنسيين) ,مدعومين بنظم عربية تقوم فيها قواعد عسكرية أميركية قيادية. فإن الحاجة إلى تغيير صيغة هذه المقولة أصبحت موضوعية للتعبيرعن مجريات أحداث اختلفت عن سابقاتها في الخمسينيات من القرن الماضي, ويمكن وضعها بصيغة جديدة معبرة تقول خاطفوا الثورة يفتكون بأصحابها .
مفجرو ثورتي تونس ومصركانوا من جيل الشباب الذي جعل من انتمائه الوطني عقلية متفتحة على العصرنة ومنفتحة على التطور والتلاقي مع الثقافات المختلفة والمتفاعلة مع المعرفة ودورها في التحضر والترقي. وهم في غالبيتهم يصنفون بأنهم ليبراليون ديمقراطيو النزعة علمانيو التوجه ,أي تجمعهم أفكار عامة دون اي ارتباط حزبي أو فئوي أو طائفي أو سياسي بالمعنى الأيدولوجي.وفي كلا المجتمعين كانت تنظيمات الإخوان المسلمين والتيارات السلفية والتجمعات الدينية,التي اكتسبت فاعليتها من قسم يمين الطاعة والولاء لأعضائها,مما مكن قادة هذه التنظيمات وزعمائها من تحريك كوادرها بعد أن لاحظت تطورالأحداث التي أخذت تتصاعد ضد النظم الحاكمة في كلا البلدين.ومثل هذه النظم بحكم كونها دكتاتورية الطابع والمسيرة, كان من المتوقع أن يحدث الحراك الشعبي هلهلة صفوفها وإرباك مواقفها والميل نحو الهروب بأمل النجاة.فالدكتاتوربطبيعته البشرية جبان ودائم الخوف ,وهو يستقوي بأجهزة السلطة القمعية شأن كل خائف أو جبان وجد ملاذا يستقوي به فيقسوكرد فعل على كل معارضيه ولكنه في حقيقته ضعيف أمام القوى التي لا تخشاه فيرضخ طائعا لرغباتها.
التنظيم الجيد للحركات الإسلامية السياسية وأحزابها, والأعضاء الملتزمون بالطاعة , والمناورات السياسية والحراكية التي أتقنوا اللعب على أوتارها,مكنتهم من السيطرة على توجيه نهايات الحراك باتجاه الوصول إلى السلطة , والتفنن في مناورات أدت إلى تهميش القوى الأخرى التي فجرت الحراك الثوري وقدمت الشهداء في طريقها الثوري النقي,فكان ذلك مدعاة لهذه القوى على وصف ما حدث بسرقة الثورة وآخرون رأوا فيها اختطاف الثورة وهو ما حصل فعلا.وقد تنصلت هذه القوى بعد تمكنها من السلطة من وعودها بالمشاركة وهي لم تقصد أصلا المعنى السياسي والتوافقي للمشاركة وإنما قصدت بنوايا مبيته المعنى الحرفي للمشاركة التي تجعل منها مشاركة شكلية خادعة ومكشوفة الأهداف الدعائية الساذجة.
العقائد الشمولية لا تعترف بصلاح ما دون طروحاتها ورؤاها السياسية ,وتسعى إلى ترويض المجتمع وتحويل قواه إلى رعايا خاصة تلك العقائد التي ترى نفسها منفذة لإرادة السماء على الأرض وما على البشر إلا الطاعة والقبول بما يقررون وبما يروجون من مواقف وأهداف.لذلك ولضمان الحفاظ على السلطة ,وانصياعا للهواجس الأمنية ,تبادر تلك القوى على الفتك بأصحاب الثورة الأصيلين , وتعيد تشكيلات الجيوش والإدارات العامة بالتخلص من كل القوى التي يمكن لها أن تنافسهم وأن تشكل خطرا عل وجودهم المنفرد في السلطة, وتطهر المؤسسات الإعلامية !!!وتغلق محطات تلفزيونية وإذاعية وصحفية , على الرغم من وعود قاطعة وصريحة بعكس ذلك تماما في مرحلة ما قبل التمكن من السلطة. وهذا هو الشكل الجديد لأوضاع المرحلة التي نمر بها في بلداننا العربية برضا السيد الأميركي ومباركته .
شهدنا كيف تأكل الثورة أبناءها , وها نحن نشهد كيف يفتك مختطفو الثورة بأصحابها!