نشرت النص الآتي في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 في هذا المكان، وكان جزءا من مقال تحت عنوان «تونس.. بشير أم نذير؟»، سبب النشر في ذلك الوقت التعليق على نتائج الانتخابات الأولى بعد ربيع تونس. مفتتحا المقال كتبت الآتي: «نتائج الانتخابات باتت معروفة (في تونس)، أكثرية من النهضة تحوز المقاعد، وبعدها حزب أو أحزاب اليسار، ما يجمع بينهم هو طول اضطهاد نظام بن علي لهم، لا أكثر، وربما يواجه السيد المنصف المرزوقي، زعيم ثاني تجمع انتخابي، المؤتمر من أجل الجمهورية، إن لم يكن حذرا، ما لقيه الليبراليون في إيران، إبراهيم يزدي أو قطب زاده، ورفاقهم الذين لم يشفع لهم نضالهم الطويل ضد شاه إيران، أن يشنقوا أو يهملوا. فالتحالف مع حزب ديني في الغالب يوصل إلى شيء من الشمولية، ونبذ الآخر المختلف». لم أكن أقرأ في بلورة سحرية وقتها، كنت أحاول أن أعمل العقل وأحلل الوقائع مقارنا بين ما مضى من تجارب وما هو متوقع من قوى سياسية بعضها لم يقرأ التاريخ الإنساني بموضوعية. فتقاسم السلطة هو مشكلة بحد ذاتها إن كانت بين متماثلين، أما إن كانت بين مختلفين، فهي معضلة، خاصة في فضاء ثقافي لا يكاد يفرق بين الدولة والحزب والدين!
قبل أيام حدث ما توقعت، ففي مؤتمر حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» في تونس، وبعد تسعة أشهر من نشر المقال ذاك، يكتشف المنصف المرزوقي ما أشرت إليه. فقد نقل عن المرزوقي الرئيس المؤقت لتونس، قوله لمؤتمر حزبه ما نصه: «حركة النهضة (الإسلامية) تحاول السيطرة على مفاصل الدولة. إنهم ينتهجون نهج الرئيس المخلوع بن علي»! هكذا قال المرزوقي علنا لرفاقه في الحزب، وإكمال الخبر أن عددا من وزراء النهضة الحاضرين لافتتاح مؤتمر من أجل الجمهورية، خرجوا من «قاعة اللقاء» محتجين على خطاب الرئيس، الذي قرئ في القاعة نيابة عنه! ولكن كلام الرئيس جاء في الوقت الضائع، حيث إن ما يتمناه من حرية بالمعنى المعاصر لها، قد يكون بعيدا عن تناوله، وكلما مر الوقت ابتعد أكثر، حيث سلطة الدولة تكون في مكان آخر.
مثل هذا الأمر يحدث في مصر؛ فقد فشل تجمع يوم الجمعة الماضي للمطالبة بعدم «أخونة الدولة» لا بسبب تدخل السلطة المنظمة، بل بسبب تدخل الميليشيات الإخوانية من جهة، والسيطرة المبرمجة على مفاصل الدولة المصرية بدءا من الإعلام! فتم ضرب وإهانة المحتجين، وهي مقدمة أيضا لوأد الحريات، حيث إن معناها يختلف عند «الإخوان» وعند غيرهم الذين يحملون المعنى المعاصر للحرية.
العرب الحالمون بالعيش في مجتمع ينعم بالحريات التي يشاهدونها في أماكن أخرى من العالم، كما هم حالمون بديمقراطية تداولية، تنتقل السلطة بين أيدي فرقاء بقرار من الشعب وبكامل حريته، حالمون وكأنهم في كوكب آخر غير الكوكب الذي حولهم، حالمون هم لأن الفترة المقبلة هي بدء الثورة المضادة، وفيها الكثير من المنقصات. أول ما تتطلبه الثورة المضادة، خطف الوعي من قبل جماعة قليلة نسبيا، ترى أنها ممثلة الرب على الأرض، وأن ما تعتقده هو الصحيح والكامل، وأن غيرهم مهرطق. التهمة التي يوجهها المحتجون المصريون للنظام، تماما كالتهمة التي يوجهها التونسيون المحتجون على النظام، هي «إعادة إنتاج النظام السابق»!
«النظام السابق» استحواذي قامع للآخر المختلف، وهل يتوقع من له عقل سياسي أن لا تسعى القوى الجديدة للاستحواذ على مفاصل الدولة؟ فهي الدولة الشرقية ذات المخالب، التي تعطي وتمنع، ليس مثلها متشابه بين الفضاء السياسي في المجتمعات الصناعية الحديثة التي تعتمد الدولة فيها على تقاسم الأعباء. الدولة الشرقية تعتمد على توزيع المغانم. في مجتمعاتنا لم يتشكل بعد وعي عقلاني ونقدي معقول وشامل من خلال مؤسسات التعليم، كي نقول إن هناك جماعات يمكن لها أن تدافع على العقلانية والرشاد في الحكم، كما لم تتشكل قوى اجتماعية مدنية ترى أن الخير العام يتحقق من خلال تداول السلطة، وبسط القانون على الجميع، وأهم من ذلك تحمل السلطة النقد. القوى الجديدة (الإسلام السياسي) عاشت فترة نضال طويل تحت ظلال القمع، فلم يعرف منتسبوه من أدوات السياسة غير ذلك الإجراء المتعسف: قمع الآخر، لا الاقتناع ولا التبصر ولا حتى المواءمة، ولا أي أداة من أدوات العصر المتحضر في السياسة طوع تفكيرهم. كل ـذلك، معطوفا على فقر فاضح في أدبيات الحكم، معظم ما كتب من لدنهم في هذا المقام، هو من السذاجة من جهة، ومن المثالية من جهة أخرى، التي لا يمكن تطبيقها على الأرض.
فلا أحد يستغرب والأمر ذاك، أن تقوم القوى المتصلة «بالإسلام السياسي» التي وصلت إلى السلطة بإعادة تشكيل الدولة على ما ورثت، سواء كانت تسلطية أو حتى عائلية، مغموسة بمفاهيمها، وقد يستبدل بالعائلية مكتب سياسي، لا يخلو أيضا من القرابة الدموية، وتهمة الخروج عن المواطنة في السابق يستبدل بها الخروج عن الدين في اللاحق.
كما ليس من المستغرب أن تكون القوى الحديثة كثيرة التصدع، وليس غريبا مثلا أن يتصدع حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» في تونس في الوقت الذي يبقى صلب حزب النهضة – إلى حد ما – متماسكا. كما أنه ليس من المستغرب أن تتصدع القوى المصرية الحديثة وتتشرذم، في الوقت الذي يبقى «الإخوان» أو صلبهم مستقرا. القوى الحديثة ترغب في النقاش والاختلاف، وتتعدد اجتهاداتها. القوى التقليدية تعمل تحت شعار «من ناقشنا فليس منا» والطاعة في المنشط والمكره! معتمدة على سقف عال من التوتر بين الحداثة والنصوص، يستعاد متى ما لزم الأمر.
في جو ثقافي أقرب إلى الطاعة منه إلى الاقتناع، وفي مجتمع يميل إلى الاستهلاك بديلا عن الإنتاج، وفضاء تعليمي وإعلامي يسوّق الخرافة بدلا من التفكير العقلاني، لا بد أن تتغلب فكرة الطاعة «الأبوية» على التفكير الحر. وفي مجتمع الدولة «الأم الراعية» لا بد أن تتفوق أجهزة الدولة، بما لديها من جزرة وعصا، على طموحات المجتمع المدني الضعيف والمشوش.
من هنا يأتي اكتشاف المرزوقي وحزبه العجلة متمثلة في شرور الحزب الحليف المستند إلى تفسير خاص بالدين، ومن هنا تتبخر تعهدات الرئيس المصري الجديد لقوى مصرية ساندته، من منطلق أن هناك حزمة إصلاحات على رأسها «نزع الديني عن السياسي»! لقد تبين أن جمعات الربيع العربي لم تحوِ ثوريين ومثاليين، بل بعض الغافلين السياسيين أيضا الذين يمكن أن لا يتعرفوا - إلا بعد فوات الأوان - أن ثورة مضادة تتكون وأن أحلامهم قد سرقت.
آخر الكلام:
أخطر سلاح فعال يمكن استخدامه ضد التقدم الإنساني، كما ثبت قطعا في التاريخ، هو قمع الحريات، وقتها يتقلص الأكسجين عن أنفاس المجتمع، ويعجز عن مواكبة عصره، ويتحول البشر من عباد الله إلى عبادة السلطان.