أفهم الآن بأن الوقت ليس ذاك العمل اللطيف كما دعيت، فالوقت جعل مني كل ما أنا عليه.. ليس إلا شظايا خذلان وسذاجة إمرأة رحلت على وقفتها الأخيرة..
أتذكر! هنا كان لدي حرية التصرف، كانت ملكي وحدي.. كأنها حقوق قد حفظت أنامل قلمي لتدون قيود آخر دقائق لي، لتشير إلى حرية تصرفي بعد رحيلك.. لو أن الوقت يعود دقائقا للوراء لصالحت ذاتي وما كنت لألومه أبدا، الوقت يا غريب ليس إلا تفاعل عكوس.. يمكنه أن يعبر بنا من الجانب الخطر إلى الجانب الآمن، أو العكس.. وهذا ما حصل في تلك اللحظة النفسية، كل ما أنا عليه حالة إستثنائية، لم أشبه نفسي ولم أشبهك حتى ملامحنا لم تتشابه، لك بريق مختلف ولصوتك رنين يتمايز عن البشر.. أكبر خطأ حين شوهت بوحشية الرمال.. لكن أتذكر كما كنت تسرد لي تلك الرواية "في يوم من الأيام كان هنالك فتاة إستثنائية.. فريدة من نوعها..." وها أنا أتخاطر قلمي لأنهي القصة بعد رحيلي الى سماء أجهلها..
أنصت.. لعلك تجيد قراءة أبجدية عصرها قد لجأ إلى جسر عالمك.. هروبا.. مناجيا...
علك تتأمل تلك الأحداث، وتعيد الكلمات في حديثنا بنفس الطريقة لتشيد الحاضر على أطلال الرمال في الماضي.. خذني كـحالة عقلية مَرَضية أوشكت أن تستفحل، قادها إلى وادي لـركام ذاكرة لألف سنة منذ قليل.
حدث.. كانت تغوص في نومة دهرية تجبر نفسها على الرحيل، تطمئن عليها الملائكة في بِعثة من أحلام قصيرة لتذكرها كيف أنها لفترة وجيزة تهرب وتعود إلى الحياة.. ملائكة تبعث بعضها بعد إنقضاء فترة طويلة على ذلك السرير لتمدها ببعض من روحها لتحارب عينيها من النوم، محاولات تخرج عن النصوص لتستردها، وبعد محاولات يا غريب أضاء وجهها بنَفَسِ لتحارب جفنيها على فتحهما.. تارة تفتحهما كستارة تنسدل من تلقاء نفسها وتارة رغما عنها تغمضهما لتعود إلى الموت الضعيف... جلّ من كان يفهم يا غريب ما حلّ بها حينها، وما كان يدور في عقلها وعاطفتها الأنثوية، رغم النداءات الداخلية ورغم قوتك التي تفوق عليها بالبشرية لم تسمعها... ذهبت الى تلك الرمال التي تناثرت من حولي سريعة، غاضبة.. تأخذ مني كل الحواس لتريني ما بقي منك بين حبيباتها، لقد إستدعك لتكون على يميني تارة وعلى شمالي تارة أخرى...
لتأخذ منك سلاحك وتأخذ مني عرشي وتجمعنا في فوضى حواسنا، لترينا وأنت على جانبي وأمامي كيف يكون رحيلك بين أعيننا، لتذكر أن ألام البشر أصعب من مخيلتك، رمال تستحدث وجود يقظتي وحضورك هنا في آن واحد في مكان واحد.. تجبر حواسي على سمع حديثك مع حارس عالمك عني، ليلة تقرص اللسان وتوقظ العقل.. ليلة صَعُب على فانية مثلي سردها.
قاومت كحد السيف، فما كانت حياتي بسيطة يوما، وما كنت عادلا يوما يا غريب.. دوما كنت أهذي بتلك التفاصيل ذات بعد دائري، دوما هناك نصف معتم وحلقة تنقصني في قضيتي معك.. دوما ألهث.. كنا ومازلنا يا غريب متناقضين حتى برمالنا، ألهث خلف الحقائق كما خلف الأوهام، أهرول دون وصول يا غريب خلف أطيافهم وأشباهنا، وعبثا دون وصول..
سئمت حتى تجسد الرجاء لك على شكل المشاعر الميتة. لم أفكر يوما أن أبني نَصّ روايتي معك متمردة عن تلك النصوص التي تعبر الرمال، لم أفكر إلا بتلك الأنا وتلك المرأة الخارجة عن النصوص المتمردة بأولئك، لم أفكر بأن هناك حالة إستثنائية في فوضى الرمال، لا أحد يشبهني.. ولا يشبهك، ذلك هو حالنا... لم أرد مواصلة درب أنهيته مرارا، لكنها يا غريب أصرت الملائكة على العودة إليه بعدما قررت عدم ذلك، لم أرد لنفسي نهاية "هذام" الذي عاش حبا غريبا، تعرّف على إسمه العربي القديم في آخر أيامه، وبعدما تجردت روحها تلك من غموضها، بعدما أصبحت جليّة أمامه خرجت من بابه ولم تعد..
أصمتُ لدقيقتين، دقيقة إنحناء لما واريته خلف فوضى الرمال تلك، ودقيقة لأفكر كيف سأتعامل مع صوتك يوم غد، صوتك الغائب منذ تسعمائة سنة، فلا أدري يا غريب إذ ما كنت سأكتفي برمال ألّمت بعودتك في ليلة غائبة عن الحياة أم أنني سأحتفي بما كنت عليه منذ طفولتي بين تلك الأشجار..
فيا الله، أضيف إلى البحر فرداً جديداً بعيداً عن هنا، لم أسترد ذاتي ولم أستعيد وقائع غريبي، فيا الله أضيف إلى البحر مفارقة تدعى بما أسميته "جيمّا"، الوقت هو عداد هذا النبض يا غريب، من يحيد بنا فيؤدي بنا للهاوية أو لليوم الثلاثون، فإن تعدى المائة يا غريب كما تتعدى الساعة منتصف الليل فما سترويه إمرأة من رصاص على سرير ذو اجهزة مجرد قرارات لغد ماضِ.