الفكرة الحاكمة في ذهن النظام السوري أن هناك «مؤامرة كونية» ضد سوريا، ويناصرها بعض من يسمي نفسه معارضة في الداخل، تحت شارات مختلفة. بسبب هذا الوهم الكبير الذي يتحكم في ذهن «الغيوتو» السياسي في دمشق، يقوم النظام السوري بتبرير الرد على هذه (المؤامرة) عن طريق القوة العسكرية. بعض القادة العسكريين في سوريا يعرفون أن ليس لهم مستقبل خارج النظام، وبالتالي يطغون في القتل ضد شعب شبه أعزل، يساند ذلك الوهم إقليميا إيران وحزب الله، ويسانده من الخارج روسيا والصين.
يتوهم النظام في سوريا أن الرد على هذه المؤامرة الكونية هو القيام بتصدير بعضها إلى الخارج، وهي نظرية ليست جديدة على النظام البعثي، استخدمها من قبل نظام صدام حسين في أزمته، وهدد بها بشار منذ أول أشهر انتفاضة الشعب السوري.
التهديد بتصدير الأزمة يمكن رصده في أربعة محاور.
الأول هو تفعيل جناح من حزب العمال التركي، وهو جناح حزب فاقد للتصور السياسي المستقبلي، لذا فإن أفعاله انتحارية، يفتقد المناصرة من أكراد العراق، وأكراد الداخل التركي، وبعد أن طلب زعيمه عبد الله أوجلان المسجون، بأن يلجأ مناصروه إلى العمل السياسي. جناح هذا الحزب المحتضن من النظام السوري، يرى الاستفادة الظرفية من العلاقات التركية السورية المتوترة، إلا أن أفق هذه الذراع محدودة بمحدودية قدرته على التأثير في القطاع الكردي الواسع، سواء في سوريا أو العراق أو حتى تركيا.
المحور الثاني الذي يرى نظام الأسد تفعيله هو الحال اللبناني الفاقد للضبطية من جانب الدولة، هنا التكتيك مختلف وإن كانت الأهداف متطابقة - ما عرف الآن بحالة ميشال سماحة - الذي يعني تفعيل الاضطراب بين القبائل اللبنانية، عن طريق التفجيرات والاغتيالات من أجل فتح جبهة لبنانية داخلية، قد تودي إلى إبعاد الأنظار مؤقتا - على الأقل الإعلامية والدبلوماسية - عن أحداث الداخل السوري. إلا أن هذا التفعيل قد يأتي بنتائج سلبية للنظام السوري، فانفلات الأمن في لبنان، يسهل على شريحة من اللبنانيين مساعدة إخوانهم في الداخل السوري، إلا أن الأمر برمته يشي من جديد بإفلاس سوري في فهم واستخدام أدوات تصور أنها تساعده في محنته.
المحور الثالث دس بعض رجال الاستخبارات مع العدد الكبير من النازحين السورين سواء في تركيا أو الأردن، فقد كشف في الأردن، أن هناك بعض الأعوان العاملين في الأجهزة السورية قد دخلوا بالفعل إلى الأردن، وتم ضبطهم، وكانت توجهاتهم الإخلال بالجبهة الداخلية الأردنية.
ذلك معطوفا في بعض المناطق الأخرى، حيث يستخدم النظام السوري بعض المتعاطفين مع إيران من أجل محاولة خلخلة السلم الأهلي في بعض المناطق العربية.
أما المحور الرابع في هذا التصور هو الإعلام الذي يردد أن المحاربين في سوريا هم (سلف وقاعدة) في محاولة لتخويف القوى الغربية من جهة، وأيضا تثبيط الهمة السورية الداخلية من جهة أخرى، يساعده في هذا المحور - كما قلت - بعض من يحسبون أنفسهم على المعارضة في الداخل، تحت شعار الحفاظ على سوريا، بل إن بعض الأقلام العربية وغير العربية في الخارج بدأت تتحدث عن أعمال غير إنسانية للمعارضة، وهي محاولة أيضا للإرهاب الفكري من أن ما يحدث قد يؤدي إلى كارثة للسوريين في المستقبل والمنطقة في الشرق الأوسط.
مجمل الفكرة الحاكمة هي أن النظام مفلس تماما من خيارات عقلانية ومبادرات للخروج من الأزمة، هو بناء على ذلك الوهم الذي فقد الفرصة تلو الأخرى، واعتقد بأن القوة العسكرية واجتثاث المطالبين بالحرية، هو الحل الأمثل.
لا يوجد في وسط النظام السوري من يقول له أن يتمهل ويفكر في خيارات أخرى أقل كلفة، ولم يقل له أحد أنه لا أقوى من فكرة حان وقتها، فالحرية مطلب الشعوب. أصر أن ما يحدث في كل من تونس واليمن وليبيا ومصر لن يحدث في سوريا، وهو مفهوم خاطئ أعجزه عن تفعيل أي أدوات عقلانية، كما فعل غيره في المنطقة، ليتفادى هذا الزحف الشعبي القادم من احتقان دام أمده وتردد واستنفد وقته.
لم أكن أعرف الأسباب التي تجعل مثل هذا النظام مغلق العين وفاقد البصيرة حتى وجدت من خرج عليه، والحديث بصراحة - قد تجرح وقد لا تكون مناسبة سياسيا - ولكن مهمة المراقب أن يفسر ما يراه بكل ما يعتقد من الصدق. قلت لم أكن أفهم لماذا تعنت هذا النظام ولم ينظر إلى الخيارات الأخرى، وبعد أن خرج رئيس الوزراء السوري المنشق إلى العلن عرفت السبب، وفي الحقيقة كنت أعرف بعضه من تجارب سابقة، هو أن هذا النظام لم يكن يرى ما القادم، لأنه كان يستخدم (موظفين) في ثياب سياسيين. لقد كتبت منذ سنوات حول اللغة (المتخشبة) التي يتحدث بها أهل النظام السوري، هذه اللغة هي سمة للأنظمة الفاشية، وقد أكد رئيس الوزراء السوري المنشق أن (الموظفين) بلغتهم غير السياسية لا يستطيعون أن يقدموا إلى النظام الذي يخدمونه، غير تعبيد طريقه إلى التهلكة. ولا أريد أن أظلم الأشخاص، ولكنه نظام «سيستم» ركن إليه كل ديكتاتور بتقريب الأشخاص الذين يرتاح إليهم.. أشخاص فاقدو الكفاءة والقدرة، لا تدخل لغتهم الحوارية عبارات مثل (اسمح لي يا سيادة الرئيس أن اختلف معك) أو مثل (أرجو أن ينظر السيد الرئيس إلى الخيارات الأخرى). مثل هذه العبارات تحتاج إلى سياسيين وأيضا شجعان، هم فقط يعرفون كلمة نعم لا غير. هناك نتيجة واحدة تتمخض عن ذلك، وهي تقريب الضعفاء فاقدي الشخصية، يستوجب بالضرورة إبعاد الأقوياء ذوي الرأي، لذلك ينتهي النظام أول ما ينتهي عند تكميم أفواه أصحاب الرأي، والارتياب المرضي في كل من له رأي مخالف، حتى تتم صناعة عبادة الشخصية التي تأخذ الأوطان إلى الجحيم.
آخر الكلام:
هناك ضفدع ترك في ماء مأخوذ من ماء بحيرته مسترخٍ.. وبدأ تسخين الماء بالتدريج وهو مسترخ لا يأتي بأي حركة عند الزيادة التدريجية في درجة الحرارة.. ويموت وهو منتفخ وسعيد عندما يصل الماء إلى درجة الغليان، بعكس الضفدع الآخر الذي ألقي به في ماء مغلي قفز بسرعة وخرج مسلوقا بعض الشيء ولكنه بقى حيا. المؤلف (باولو كويلو في كتاب عزلة المنتصر)!! عيدكم سعيد!!