لما كان من العسير جدا مقارنة الإصلاح وخطواته وبرامجه وآلياته بما يقابلها للديمقراطية,إلا إن ذلك لا يمنع من البحث في فرص نجاح عمليات الإصلاح في مجتمع غير ديمقراطي بالمعنى المهني والحرفي للديمقراطية, والسبب في ذلك إن غياب الديمقراطية لن يترك فسحة زمنية كافية كي تستقر نتائج عملية إصلاحية في قطاع ما أو أمرمعين ,لتستجد الحاجة إلى مزيد من الإصلاح وهكذا حتى تصبح عملية الإصلاح من العمليات المضنية جهدا والمكلفة اقتصادية والمربكة اجتماعيا.
من الواضح إن طبيعة المشاكل وتعقد القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه قطراعربيا لها ما يماثلها بل وما يطابقها في الغالبية العظمى من الأقطار العربية الأخرى.مشاكل التشريعات والشرعيات وقضاياها الدستورية , مشاكل الاستيراد والتصدير,مشاكل التجارة والصناعة,الخلاف على قوانين الأحزاب وعلى قوانين الانتخابات ( في الدول التي تجري فيها انتخابات),الخلافات بين الأحزاب والتيارات السياسية,ومعوقات عمل مؤسسات المجتمع المدني, درجة الحريات العامة والحريات الفردية ومستوياتها ,الموقف من دورالمرأة في المجتمع,المشاكل بين العمال وأصحاب العمل....وتقع قضية الثقة المهتزة والمهترئة بين النظم الحاكمة وبين بعض التيارات السياسية والأحزاب العقائدية من جانب وبين هذه الفئات فيما بينها من جانب مقابل.
وفي الدول شبه الديمقراطية ,على سبيل المثال,يتداورتشكيل الحكومات المكلفة من رأس الدولة وبإرادته بعد فترة قصيرة من آخر تشكيل حكومي.وجرت العادة أن تتقدم كل حكومة منها ببيان وزاري إلى المجالس التشريعية القائمة فيها,حيث يتضمن البيان رؤى إصلاحية وبرامج تنموية وتعهدات سياسية بالمزيد من الحريات الفردية والحريات الإعلامية والحريات الاستثمارية والتجارية وبتفعيل القوانين والتشريعات وتطبيقها بعدالة ومساواة بين الجميع ,وإدخال التجديد على مناهج التربية والتعليم ,وتشجيع البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية,ووضع التشريع لحرية الوصول إلى المعلومات أو تفعيله إن وجد,وتفعيل أداء الموظفين وتحفيزهم على الإنجاز المميز.... ثم تتكررالحالة بتجدد التشكيلات الحكومية وبياناتها الوزارية ووعودها الذهبية الصياغة والخطابة دون محتوى حقيقي للمعاني التي تحملها عبارات تلك البيانات. فما دام الوضع على ذلك المنوال ,فما المقصود في مثل هذه النظم بالدعوات إلى الإصلاح من جميع الأطراف, الحكومية والحزبية والمؤسساتية, فيما يشبه المتاجرة في قضايا الناس وعواطفهم؟؟!!
إذا ما علمنا إن الإصلاح ضروري وهو عملية مستمرة في أي نظام أو مؤسسة تعمل على إنتاج مواد أو تقديم خدمات أو في مجال التربية والتعليم بمستوياته المتواصلة أوالصحية المختلفة أو جمعية .... فهل يُقصد بالحديث المتكررعن الإصلاح بوجود الهاجس الأمني في الدول غير الديمقراطية أو شبه الديمقراطية أو الخوف على المركزهو تكوين إدارات مؤهلة ومدربة لكي لا تقع في الأخطاء , أو تميل إلى الضجر والكسل وتفقد قابليتها على المساواة في المعاملة بين كل الناس؟.
نتفق مع نتائج تجارب عملية في تلك الدول, بأن التغييرفي الأشخاص بانتقائهم لا يجلب الإصلاح بالضرورة,وإن التقدم والتطورعلى أي صعيد وفي أي مجال,لا يرتهن برغبة سياسية او عقائدية أو برامج مسيسة يتملكها الهاجس الأمني ويحرك اختياراتها.
الهاجس الأمني يقلق نظام الحكم الذي لا يستند إلى المعايير الديمقراطية,ولم تبن هياكله المؤسسية على الركائز الديمقراطية.وفي المسلك النظري لتلك النظم,نجد تركيزا مميزا على مماثلة الثقافة الديمقراطية ,على سبيل المثال,بثقافة السياسي في علوم الفيزياء النظرية !,كما يوجه الهاجس الأمني سلوك مؤسسات الحكم وتوجهاتها ومنجزاتها في كل الميادين ومنها الميادين الثقافية و التنموية والتوجهات الإصلاحية لتدخل ضمن إطار الولاء للنظام بما هو عليه ,لأن معيار الهاجس الأمني يتم حسابه ضمن معادلة الأثرالذي سينتج عن أي عمل أو نشاط أو إجراء أو قرار, على استقرارالحكم المرتبط بالحاكم ومستقبل النظام المرهون بوجوده على رأس السلطة.وهكذا يتم اختيارالأشخاص المنوط بهم المسؤوليات من خلال مواقفهم السياسية,وانتقاء المشاريع التي تضيف إلى منجزات الحاكم ومبررات بقاء مراكز الحكم وسياساتها الثابتة !!(الثبات من دلالات الفشل التنموي والفكري ) والتحكم مناطة به.
في الديمقراطية الهاجس الأمني ينتقل من سلطة أمنية مركزية صارمة مكلفة به تتدخل في تشيكل التركيبة السياسية والكوادرالإدارية كما يحلو لها وكما توحي به إليها مخاوف غير مبررة ولكنها في ظنهم تبقي الحال العام في مأمن من التحركات السلبية (والمشاغبة),ينتقل إلى سلطة شعبية حقيقية لأن المواطنين في المجتمعات الديمقراطية الأصيلة هم المسؤولون أدبيا وعمليا عن حماية النظام الديمقراطي باختيارهم السلطة الأمنية التي تحافظ على أمن المجتمع ككل دون التركيزعلى أمن النخب أو الفئات الحاكمة وحدهالأن النظام الديمقراطي هوالذي يحقق لهم الكرامة الوطنية والحرية الفردية ويشد الولاء للوطن وليس لفرد أو شخص أو حزب أو فئة بعينها وملتزمون بالدفاع عن الديمقراطية لأن بدائلها التفاضلية في إدارة الشأن العام وفي بدائل الحكم ومراكز السلطة لم توجد بعد في النظريات السياسية وأدبيات تشكيل مراكزالسلطة واختيارالقيادات التي تحظى برضى الناس وأحقيتهم القانونية والدستورية, إضافة إلى أن المنهج الديقراطي يفتح المجال للسلطة بفرص متساوية بين الناشطين السياسيين والأكاديميين والفنيين والتقنيين والأدباء والمفكرين كل في مجال علمه ومجال اهتمامه والأحزاب المبنية في هياكلها على الأسس الديمقراطية, حيث تسقط من الحسابات الديمقراطية النظم الشمولية ,والمرجعيات الأبوية,والعنعنات الفئوية من أي مصدر نشأت.
كلفة الهاجس الأمني الاقتصادية والتنموية والمعنوية, كلفة باهظة لإنها لا تقف عند حد الميزانيات الأمنية وحسب بل تنسحب على كلف العمل البيروقراطي ومشاريعه والحفاظ على بناه الهيكلية.ففي الكيان الصهيوني على سبيل المثال,يشكل الهاجس الأمني معضلة كبيرة, ولهذا فعلى الرغم من ضخامة حجم اقتصاد هذا الكيان بالمقارنة مع دول المنطقة,إلا إن حاجته إلى المساعدات الخارجية السخية من أميركا ومن الدول الأوروبية ماسة وضخمة كذلك.
في المجتمعات الديمقراطية إذن ,يتحول الهاجس الأمني من هاجس يثير الريبة والمخاوف ويضعف الثقة في الآخرين ويشكك في ولائهم السياسي والشخصي ,إلى واجب جماعي أمني طوعي لحماية أمن الوطن وليس بقاء طاقم النظام ,ويتحول إلى الوظيفة الاجتماعية التي تشارك بها وتساهم في حمايتها كل المكونات الشعبية, لهذا تجد الكفاءات فرصها دون قيود على أرائها أو تقييد الفرصة بالموقف السياسي لمن يستحقه, فتنهض قوى المجتمع البناءة والخلاقة التي ترى في تقويم تجاربها وإصلاح مسارها ومراقبةأدائها مهمة يومية وواجبا يلتزم به الناس طواعية وبتلقائية , وتتفتق عبقرية المبدعين في تعظيم إنجازاتهم العملية التي تعود بالفائدة عليهم وعلى مجتمعهم دون اسئثار أو أنانية . لهذا كان كل مجتمع ديمقرطي مجتمعا متقدما وقويا ومتحضرا,لا يضيع وقته في حوار الإصلاح وإنما في بذل الجهود لتعظيم الإنجاز وتعميق أعمدة التنمية والتفوق وتنويعها.