ليس هذا الموضوع حديثا ً في الاقتصاد وشؤونه ,وإنما حديثا ًفي ظاهرة اقتصادية يقفزالاقتصاد عن إضاءة جوانبها المسببة لها. فالفقروالغنى يشكلان طرفا حاصل مجموع ملكية الثروة في الاقتصاد لبلد موزعة ملكيتها بين أطراف المجتمع بنسب متفاوته,حيث الغنى ودرجاته مستويات وكذلك الفقرودرجاته. وحتى نستوضح عن طبيعة العلاقة بين الغنى والفقر في مجتمع ما,وليس المقصود هنا تلك الخطوط الوهمية التي يرسمها بعض بيروقراطيي الاقتصاد لخطوط الفقروحدوده الدنيا والعظمى, طالما إن مثل تلك الخطوط الوهمية لا يتعاطون بها في قياس الغنى وترصيد حدوده الدنيا وحدوده القصوى, ولعل في ذلك ما ينير بعض الجوانب المعتمة في العلاقة المباشرة بين الفقروالغنى ويلقي ببعض الضوء حول استحالة القضاء على الفقركما يحلو للسياسيين الادعاء في خطبهم وفي برامجهم الخادعة.
يسعى الفرد في المجتمع إلى تحقيق وجوده الفاعل بتغطية احتياجاته الشخصية والأسرية والاستثمارية بحجة ضمان حياة كريمة تبعده عن الاضطرارعلى سؤال الآخرين أومد يد طلب المعونة أو الاستدانة لأغراض استهلاكية ولكنه لا يضع قيودا ًعلى ما يتوفرله من مصادردخل,ولا يقنع بتحقيق حد أعلى لهذا الدخل أو تراكماته المالية والعينية.
ترتبط السياسة بالاقتصاد بأواصرمتجاوبة في خدمة كل عنصرمنها مع عناصرالأخرحيث يمكن أن يصنع المال سياسيين دون أن يشترط نوعية السياسي أو مدى حنكته أو خبرته,لأن تجربة صاحب المال متركزة على استعمال المال لخدمة أغراضه وجني المزيد من المال , فطالما إنه يحقق الزعامة السياسية بالمال فلا داعي لإشغال الذهن في ما يمكن للمال أن يشتريه. ونعلم بوجود حكام في بلاد غنية جدا ًبمواردها المالية إما أميون أو يجدون صعوبة بالغة في تهجئة الكلمات التي يُحفظون إياها فما بالك بملكة القراءة والاطلاع والتثقف من خلال العلم والمعارف السياسية وعلومهما, وقسم كبيرمن الشعب يعاني الفقروالعوز, والبلاد ذاتها تعاني من الفقرالتقني والفقرالفني والفقرالثقافي وانتشارالفساد كظاهرة مؤسسية علنية!!. وفي بعض البلدان نجد وارثا ً ثريا ًفتيا ً يقود سياسيين شيوخ محنكين في الألاعيب السياسية يكبرونه بالسن والخبرة والمعرفة وربما الذكاء يدينون له بالولاء ويديرمعاركهم السياسية ولكن النصر فيها غالبا ًما يكون عزيزا ًعليهم .
السياسة تكون أحد عوامل الثراء وليس كل أسبابه , وليست السياسة أهم العناصرالتي يمكن أن تجلب الثراء لصاحبها وهذا لا يمنع الساسة من تشكيل بيئة اقتصادية توفر أسباب الثراء لأعمال التجارة والتصنيع والخدمات الصحية والسياحية وخدمات الأعمال وغيرها,وتربط بين دهاء الفعل وبين ما يحققه من دخل وأرباح.وفي الحقيقة المرصودة في معظم البلاد الرأسمالية أو شبه الاشتراكية , أو الاشتراكية (غير الماركسية) ,لا توجد علاقة رياضية أو محاسبية أو ضريبية أو قانونية أو تراثية يتم من خلالها الاقتناع أو الرضى والقبول بهامش الربح من بيع السلعة أوالخدمة ,وغالبا ما يتدخل السياسيون في عوامل السوق لصالح المستثمرين في مختلف المجالات (بادعاء تصحيحها أو إعادة هيكلتها,أو ترميم تشوهاتها).
الفقروالغنى سمتان متلازمتان في المجتمعات الإنسانية, وهي رديفة لما كان يُعرف في الأزمان الغابرة بالسادة والعبيد قبل أن تتحررالخيارات أمام الناس, وتفتح المجالات دون تحريم الخوض فيها لأحد أو منعه بالقانون , وإنْ يتم ذلك في بعض المجالات الإبداعية والعالية التقنية باهظة الثمن بما نسميه اليوم بالاحتكارات التي تتبناها الدول المتقدمة تقنيا ً,لحرمان الدول النامية والمتأخرة من تعجيل تسارع النمو والتطور.
يزداد الغني غنى بجهود العمال والفنيين العاملين في الإنتاج والتسويق والخدمات,ولا تنحسر مستويات الفقرلأن معدلات الدخل للعمال والموظفين وأصحاب الدخول المستقرة تتآكل أمام معدلات التضخم , ومعدلات التضخم لا تكون على الغالب أسبابها كلها محلية في الدول المعتمدة على الاستيراد خاصة,ولكن الأثرياء والأغنياء من أصحاب الأملاك والأعمال هم أحد الأسباب المباشرة في رفع معدلات التضخم ,عدا عما يسببه الفساد والإفساد من نتائج مؤثرة أيضا ً, وفي الوقت ذاته,يسعى الأغنياء والفاسدون إلى الحفاظ على مستويات الرواتب والأجور عند حدود يدعون إنها مشجعة على الاستثمارالمحلي والخارجي.
التفاوت في الرواتب في بعض المؤسسات لا تجد له مبررا ً استثماريا ً حين يصل راتب مديرها 15-20 ألف دينارا شهريا ً,وهو ما يعادل راتب ثلاثة موظفين سنويا ًممن يصل دخلهم الشهري 500 دينار,أي إن جهده مقدر براتب يوازي جهد 40 موظفا ًفي الشهر الواحد. وبعض السلع من الخضار والفواكه يصل سعرها للمستهلك إلى أكثرمن 25 ضعف لما يتقاضاه المزارع قيمة جهده وتكاليف إنتاج محصوله منها.
المجاعات في دول العالم الفقيرة من صنع يد ساستها وأثرياءها.والفقرفي الدول العربية يمثل عيبا ًسياسيا ًواقتصاديا ً لأن معالجة معظم أسبابه ممكنة بالتعاون الاستثماري بين دول الاقتصاد الريعي والدخول المالية الهائلة التي تبحث عن مداخل استثمارية في الخارج وعانت ما عانت من خسائر ضخمة في تلك المتاهات الاستثمارية الخادعة,ومشتروات سلاح وهمية في أسعارها وفي إمكانية استخدامها ضد المحتلين للأرض العربية , وعن أيد عاملة ماهرة وعادية وكفاءات علمية وفنية وخبرات مجربة , في الداخل.
وحيثما ذهب بنا فكرنا بحثا ًعن حالة اجتماعية – سياسية – اقتصادية , سنجد إن الأغنياء قلة ضيئلة لا تتعدى 5% من مجموع السكان , ولكنها قلة متحكمة في التوجهات السياسية للحكام وفي النشاطات الأيدولوجية لبعض الأحزاب وفي الفعاليات السوقية للتجار,وفي المجالات الإنتاجية للمصنعين. وهي الفئة المتحكمة في أشكال البنى الاقتصادية وفي تصاميم هياكلها ومنشآتها.
ما دام هناك أغنياء لا بد إذن من وجود فقراء, وهي القاعدة الذهبية في التقسيم الإحصائي لتوزع الثروة وتقاسم مكاسب الاقتصاد, و لا مناص من اللجوء إلى الأكاذيب السياسية والوعود الفارغة من المضمون الاقتصادي بمحاربة الفقر,وألاعيب استثمارية بتشغيل الأيدي العاملة. فبرامج محاربة الفقر إعلان حرب وهمية ,بخطط افتراضية لا تتماهى في طبيعتهامع قضية من صنع أيدينا.