مرت ذكرى ثورة 23 يوليو هذا العام ولم يكن في الاعلام المصري تلك المهرجانات والاحتفالات التي تعود عليها المواطن العربي منذ اكثر من ستين عاما ، وكان ذلك غريبا لان هذه الذكرى لها مكانتها في الذهن العربي والواقع العربي وربما المستقبل العربي ، وكم حظيت هذه الذكرى من احترام وعرفان من الشعب العربي في مصر والى الاحتفال ولو بالمؤازرة المعنوية من باقي الشعوب العربية في شرق الوطن وغربه ، فقد كان المواطن العربي يرى بدون شك ان واجب الشقيقة الكبرى كبير عليه ، وبالتالي فقد كان يتابع وينتظر تلك الذكرى بشغف وترقب.
والباحث في التاريخ العربي الحديث يجد ان علماء واساتذة واطباء وادباء وفناني العالم العربي في شرقه وغربه في الستينات من القرن الماضي كانو معظمهم خريجو الجامعات المصرية ، ومن تخرج في تلك الفترات هم الان في سدد الحكم والادارة ومتصدروا المناصب العليا في عديد من المواقع في بلادهم ، وبالتالي فان ذكرى تلك الايام تدغدد ذكريات الشباب لديهم وفوق هذا وذاك فانها تثير في نفوسهم مشاعر الوطن والوطنية وتسترجع في كثير من الاحوال ايام مشاركاتهم مهما صغرت في صياغة معالم تلك الحقبة وما تلاها .
وانك مهما اختلفت او التقيت مع عبد الناصر فان احدا لا يمكنه ان ينكر بان ناصر كان رمزا للامل المنشود في نفوس ابناء الامه المتطلعة والراغبة وربما العاملة على موضوع التغيير للافضل والانطلاق للامام ، ولا بد من الاعتراف بان ذلك كان احد اللبنات الكبرى في رسم معالم الربيع العربي الحالي .
اضف الى ذلك ان تلك الحقبة قد اصلت في قواعد اللغة الدارجة عند العامة ايامها وما تلاها مفاهيم اساسية ومتجذرة مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والقومية والعزة والكرامة ، ومثل البناء والتحدي والتصدي والمقاومة وما الى ذلك من مفاهيم ، ولا بد ان نعترف بان ذلك البناء الثقافي الوطني والقومي وحتى الاقتصادي الذي تحملت وزره الثورة المصرية كان اقوى واوسع واشمل واوقع تاثيرا من كثير من ادبيات الاحزاب التي نشأت قبل الثورة وبعدها ومحاولاتها اضافة تلك الافكار لعقول منتسبيها.
ومما لا شك فيه ان ما واكب حقبة الستينات من بناء لقواعد التفكير في الشارع العربي كله كان ايضا عنيفا ومحبطا عندما اندلعت حرب 67 وما خلفته من نتائج ، لكن تلك الضربة الحاسمة ما كان بالامكان تحملها ثم ازالة تاثيرها من نفوس الامة لولا ان القيادة العربية كلها في ذلك الوقت وقفت مع مصر ومع عبد الناصر اما بتأثرها المباشر بالمفاهيم التي ارستها ثورة يوليو او تمشيا مع موقف ومشاعر الجماهير العربية التي تاصل في ضميرها ووجدانها قواعد النصر الذي كان يجب ان يكون ، والانتصار الذي لا بد وان يكون ولو بعد حين.
وكانت العودة للمجد والسؤدد في نفوس الامة عندما كانت حرب التحرير المنتصرة عام 73 تقول للقاصي والداني بان جيل النصر هذا قد تاسس فكره وعزيمته على مفهوم الحرية وعنفوانها في الستينات ، ها هو يثأر ويتقدم للامام وخلفه كل الامة تدعم وتهتف الى ان تتمزق حناجرها بهتافات العزة والنصر التي تعودت عليها وكانت جزء من ثقافتها اليومية قبل النكسة ، وها هي النكسة تذوب معالمها بعد ذلك النصر الكبير.
لكن المتربصين والباحثيون دائما عن ثغرات في جسم الامة وصولا للنيل من عقيدتها قد انتصروا بعد نصر الجيش فورا من خلال اغراء رؤوس واهنة وقدرات واهية واصول انتهازية بالعمل على قلب واقع النصر الصلب الواضح الشامخ الى هزيمة ناعمة تطعم للامة على دفعات بسيطة لا تبدو مؤثرة في حد ذاتها لكنها كانت كارثية عندما تجمعت وتراكمت في واقع الامة ، وعلى ذلك استند مدبرو اتفاقيات السلام مع العدو المنهزم ، وليتها كانت اتفاقيات تجسد حق المنتصر المكافح لكنها كتبت وثبتت عكس ذلك تماما وبدأت الامة في دفع ثمن بدل من قبض قيمة الانتصار.
ومن اجل ان تنجح خططهم اوعزوا لمن كان بيده عصا القيادة وصولجان الحكم ، وهو الذي عاش ايام العز وايام البناء الوطني وزامل رموز النضال العربي العظيم ، اوعزوا له بتسليم مقاليد السلطة ومصير الامة لمن سيكون امينا على مصالحهم ومحققا لغاياتهم في تخريب اصول الامة وعقيدتها ، بعد ان وهن وانكسر صولجانه واخذته العزة بالاثم فتفرعن ظاهريا لكنه خوى حقيقة لاسباب الله يعلمها والراسخون في العلم ... وهكذا كان.
وبعد اكثر من ثلاثين عاما على العمل على تخريب اصول الامة وعقيدتها تحركت اصول الاصول في النفوس ، وبرز مفهوم الشموخ والعزة من سباته ، والتقت عناوين ومفاهيم ومصطلحات الستينات مع احتياجات الامة مرة اخرى ، مما هيج مشاعر الجميع حتى اولئك الذين من لم يتحركوا منذ السقوط الاكبر بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وحمل الجميع مشعل الحرية وانطلقوا واعلنوا مطالبتاتهم التي لن ينسى التاريخ اي منها.
ابدع الجميع بلا استثناء وكان ابدع المبدعين هم من حمل وحافظ على فكر الحرية والكرامة الاول ايام النبوة والرشد ومعهم وعلى نفس الخط انطلقت الجحافل التي اسستها ستينات القرن العشرين ، وعلى نفس النهج وبزخم مصنوع من المعاناة الكبرى التي تلبستها الامة في النصف الاول من القرن العشرين انطلقوا وانطلق بمحاذاتهم اولئك الذين تعلموا وتربوا في مدرسة العزة والكرامة في ستينات القرن العشرين .
شاء من شاء وابى من ابى فقد كانت ثورة يوليو موجودة في عقل كل من كان في الميدان ، وكانت ترفرف بروحها على الميدان يوم 25 يناير .. فكان النصر الذي يشبه كثيرا ويثأر تماما لنصر عام 73 .. وكانت الاحتفالات .. وما زال الباب مفتوحا للاحتفالات القادمة.