صحيح إننا لا نتفاجأ عندما يقولون ان العرب لا يقرأون .... بغض النظرعما إذا كان القائلون بذلك هم من أصدقاء العرب أو من محبيهم أو من أعدائهم وكاريهيهم الراصدين لتحركاتهم الوطنية نحو الاستقلال والتحرر من الهيمنة الأجنبية بهيكلها العام , ومن الهيمنة الأميركية المعلنة دون حياء أو خجل على المتواطئين مع الرغبات الأميركية والعاملين على توطين سياساتها للهيمنة على الدول العربية على اعتبارها قدرا مفروضا على نـُظم فقدت حولها وأضاعت قوتها فاستكانت إلى مصيرها.
ولكن المفاجئ في مثل هذه الحالة ,إننا نُصرعلى موقفنا من عدم القراءة ومن التمسك بأسلوب التثقف السماعي والاكتفاء به والتفاخر بالتخاطب في الحوارات التي تدور معنا ومن حولنا بمثل تلك المرجعية المربكة في التثقف لأنها تسوق آراءنا إلى مواقف مضحكة أحيانا , وغريبة في أحيان أخرى, وحمقاء في أحيان غيرها فتقايض المبادئ بالمواقف الآنية,وترضى على نفسها أن ترهن وجودها لقوى أجنبية المطامع والمصالح برضاها والتعبيرعن ذلك بقناعة تبريرية بعناد الجهلة تكون مثيرة للحيرة والدهشة.
الشفافية التي تمتاز بها السياسات العملية وتلك التي تمثل الوقائع الاستراتيجية وصياغاتها التطبيقية في المجتمعات الديمقراطية على وجه العموم , وفي الولايات المتحدة المتحدة الأميركية على وجه الخصوص, ليست بخافية على من يرغب من أبناء الشعوب الأخرى الاطلاع عليها وهي معلنة بكل وضوح في مصادر عديدة ومتوفرة بسهولة لمن يريد أن يقرأ ليفهم و لمن يريد أن يقرأ ليعلم .
والفرق بين القراءة للفهم والقراءة للعلم تفرز المواقف من هذه السياسات تجاه مصالح الوطن وتعي لما يُخطط لمصيره , وما يُدارعلانية من أحداث تؤثرعلى مستقبله.
وللتوضيح المبدئي فإن من يقرأ ليفهم تستيقظ في وجدانه الدوافع الوطنية الخلاقة تحثه على أهمية الاعتماد على الذات وضرورتها, وعلى بناء العلاقات الندية (وليس بالضرورة المتكافئة) مع القوى الأخرى في صنع حاضر الوطن ومستقبله,في حين إن من يقرأ ليعلم ويكتفي بذلك,تستكين في وجدانه دوافعه الوطنية الخلاقة , ويرتاح إلى الاكتفاء ببناء علاقات يترك للطرف الآخر فيها التصرف وتقريرما يربط به مصالحه بوطنه,مثل تأمين الحماية العسكرية والأمنية للنظام وغض الطرف عن عيوب المنظومات التي تتحكم بمصيرالمواطنين بالقمع والقتل والسجن ...
وهكذا تتحول ظاهرة إننا شعب لا يقرأ,إلى مصيبة محققة ليس لأننا نصبح جهلة فيما يُخطط لنا من طامعين فينا فقط , بل لأننا نتحول تلقائيا إلى ضحايا لعدم القراءة والفهم,وتصبح الثقافة السارية في المجتمع ثقافة أسيرة لأحداث عادية وهامة ومفصلية في التأثيرعلى مجريات حيواتنا, لا نصنعها بأنفسنا,بل يتفنن الآخرون في صنعها للتأثيرعلى قيمنا وفي توجيه ولاءاتنا ,وتضيع دلالات المصطلحات في كل فروع العلوم ومناهجها الشائعة الاستعمال وتفقد معانيها التي استقرت عليها أدبيات الحضارات البشرية منذ القدم.وفي هذا بيئة لتفاقم حدة الأنا المرضية حيث يرى الفرد إنه مضطر لزج نفسه في حوار للتعبيرعن رأيه دون فهم لطبيعة الوقائع التي يناقشها فتظهر تناقضات فاضحة في تلك الآراء متضاربة مع ذاتها ومع طبيعة الحدث ونوعه واتجاه مساره وتشخيص القوى المؤثرة فيه, ومع قيم المجتمع وتراثه الفكري,وتجاوز فاضح لمسلمات انتماء الفرد العرقي والثقافي وأبجديات فروضه الإيمانية والأخلاقية.
يمكن لأي مهتم بفهم السياسات الأميركية (لا يمثل ذلك هواية معرفية , بل لها أهمية ما يتضمنه شعار تعرف على من يرعى مصالحه على حساب مستقبلك ) بالتحديد أن يقرأها من مصادرها المؤسساتية أي العودة إلى موقع المؤسسة الرسمية أو المدنية على الإنترنت أو في الصحف والمجلات التي تتطرق إليها بين حين وآخرعلى طريقة الخبر أو المقال أو الرأي أو في المخطوطات التي تصدر بالآلاف سنويا لمفكرين وكتاب معروفين في أميركا وفي مختلف أنحاء العالم.
فدعونا , على سبيل المثال نقرأ (في جزئين), لنفهم لمن يرغب وليعلم من يود ذلك, بعض مما كتبه السيد هنري كيسنجر أحد أبرزالمفكرين في العلاقات الدولية واستراتيجيات الهيمنة الأميركية وطرائقها ووسائلها والمفكرالسياسي في القضايا الأميركية الاستراتيجية حول الدور الأميركي في المنطقة العربية, وأهداف السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ,وذلك في الهيرالد تريبيون بتاريخ 2 إبريل ,2012,تحت عنوان الدورالأميركي في الربيع العربي:
من بعض ما كتبه السيد كيسنجر(ونشير إليه في هذا الجزء) ما ترْجَمتُه إلى العربية - لأكثر من نصف قرن مضى,كان جوهرالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط يتركز حول عدة أهداف أمنية جوهرية :
- منع قيام أي سلطة مهيمنة في المنطقة ؛
- ضمان انسياب مصادر الطاقة بحرية لأنها ما زالت شديدة الأهمية للنشاط الاقتصادي العالمي؛
- محاولة التوسط لإقامة سلام دائم بين إسرائيل وجيرانها,متضمنة تسوية مع الفلسطينيين العرب. (لا تعليق على عبارتي الجيران , والفلسطينيين العرب!).
ثم يضيف :- في العقد الأخير برزت إيران كتحد رئيس لهذه الأهداف الثلاثة. تلك المصالح لم يُذهبها الربيع العربي ؛وإنما تنفيذها أصبح أكثر إلحاحا ً..........
وهنا نلحظ عدم اهتمام السيد كيسنجر بما يروجه الإعلام من مختلف المصادر العربية والأجنبية من إن الخلاف بين الغرب (والعالم !!) وبين إيران مختزل بنوايا إيران العسكرية – النووية.
من ناحية أخرى فإن تركيا ,التي يحكمها حزب العدالة والتنمية المنبثق عن حركة الإخوان المسلمين ,عضو عامل في حلف الناتو حيث إن الحلف ملزم بالدفاع عن تركيا كما شهدنا على ذلك بعد إسقاط القوات السورية الطائرة الحربية التركية ,كما إن أميركا والحلف ملتزمان أيما التزام بالدفاع عن دولة الكيان الصهيوني في فلسطين,وتحافظ القواعد العسكرية الأميركية على مصالح أميركا والغرب في دول مجلس التعاون الخليجي ,ولا يصعب فهم الاستشراس الأميركي على دعم محاولات استبدال الأنظمة القومية التي ترى مصالحها في التحالف مع الدول التي لا تلتقي سياساتها وسياسات الهيمنة الأميركية مثل روسيا والصين وإيران والهند وغيرها, بأنظمة بديلة تحفظ الجميل الأميركي في مساندتها وتبادله المساندة بأفضل منها.
يتضح بكل شفافية من القراءة الأولية لهذا التحليل الموجز والمركز للمصالح الأميركية الدائمة والثابتة في المنطقة العربية خلال عشرات العقود من تاريخ الجهود الامبريالية المستمرة ,يضعنا أمام صورة شديدة التفاصيل واضحة الملامح لما يجري في منطقتنا بالتحديد من أحداث يلعب الأميركيون الدورالرئيسي في إدارتها وفي تحريك بعض أطرافها العربية التي سيطر تولي الحكم على عقول أصحابها ,وعلى مبادئهم وعلى طروحاتهم السلوكية والمنهجية, وأولئك الساعين إلى المحافظة على نظم الحكم القائم منها ,هنا وهناك منذ قيام ثورة 23 يوليو1952 في مصر وإلى وقتنا الحالي الذي تتولى فيه السياسة الأميركية دعم البعض في ادعاءاتهم الثورية !! معنويا ً وعسكريا ًوإعلاميا ًوماديا ًفي ليبيا وفي سوريا بشكل مباشر وعلني,هذه الادعاءات مكشوفة الأهداف وإنْ حاولت إخفاء النوايا بوسائل لم تعد قابلة للخفاء أوالإخفاء, وغير قادرة على التحايل أو التسترعلى مآل الحال في خدمة متبادلة بين المصالح الفئوية التي ترتكب خطيئة تاريخية لن يسهل التكفيرعن ما تؤدي إليه من رهن الاستقلال الوطني لقوى لا تخفي أطماعها,وتاريخها لا يُخفى على أي كان, وبين خدمة المصالح التي تمكن أعداء المستقبل العربي في منطقتنا بالتحديد من إدامة سيطرتهم على ثرواتهم وصياغة توجهات أبنائها نحو التحرر والاستقلال الحقيقي بإرادتهم الحرة.