أعرف أن الجدل حول فوز الإخوان المسلمين في مصر أخذ حيزا كبيرا من نقاشاتنا، وهذا طبيعي بحكم أهمية الحدث الانقلابي التاريخي، ليس لمصر وحدها بل للمنطقة، لدلالاته السياسية، وإرهاصاته الحالية واللاحقة المحتملة.
مثلا، كشف فوزهم هشاشة الفهم الثقافي في المحيط العربي للديمقراطية، روعتهم النتيجة في مصر، وقبلها تونس، فكانت امتحانا أوضح لنا الفارق الكبير بين النظرية والتطبيق، عند المثقف العربي. الديمقراطية ليست نظاما مضمون النتائج، لهذا البعض يعيش صدمة من نتائجها التي قد تأتي بجماعات دينية متطرفة.
العجيب في سيل الآراء حول الانتخابات المصرية أنها كانت تستغرب من فوز محمد مرسي، مع أن فوز الإخوان كان سرا معروفا منذ فوزهم بانتخابات برلمان مجلس الشعب. والأكثر عجبا أن بعضها استنكر فوز ممثلهم مرسي في حين أن الذي يفوز هو من يحصد أغلبية الأصوات، مسألة رياضية لا ثقافية. وكل من رد مستنكرا أجيبه مستنكرا أيضا: هذه هي الديمقراطية، يا أستاذ!
أنتم تريدونها ثم لا تستطيعون هضم نتائجها «السيئة». تريدون ديمقراطية لكنكم لا تريدون محمد مرسي، ولا تريدون الإخوان أن يفوزوا بالسلطة، إذن ما هي الديمقراطية؟ أليست خيار الشعب؟ قد يكون خيارهم شخصا جاهلا أو متعصبا أو شعبويا. قد يكون - مثلا - ممثلا سينمائيا مثل ريغان في أميركا، أو مثقفا وأديبا رائعا مثل هافل في التشيك، أو مجرما مثل هتلر.
خيبة الأمل كبيرة في أوساط العديد من المثقفين العرب الذين بنوا صورة تخيلية لما ينبغي عليه خيار الناخب المصري، وما هي شخصية الرئيس المصري، أو رئيس الوزراء التونسي المقبل، وعندما ظهرت النتائج بخلافها صار الهجوم على الفائزين «الإخوان» أو «النهضة». إذن، الإشكالية في النظام الديمقراطي وليس في منتجاته، مرسي والجبالي.
رأينا السلبي في الإخوان، كفكر أو حركة أو شخصيات، لا يحرمهم حقهم من الفوز طالما أنهم خاضوها وفقا لقوانينها، وطالما أن أكثر من خمسين في المائة صوتوا لهم. صورة الديمقراطية والرئيس المنتخب ممثل الشعب، التي تخيلها بعض المثقفين العرب في أذهانهم لم تنطبق مع النتائج، وبالتالي حكموا عليها بأنها انتخابات رديئة وبعضهم كان أكثر صراحة بالقول برفضها. والأنكى من هذا كله، الاستنكار على من أيد النتيجة وتعامل معها بواقعية واتهامه بأنه إخواني مندس أو مثقف مراءٍ!
اختيار الشارع رئيسا له ليس دائما «مناسبا». ومع أن استنتاجي هذا يفوح بالتعالي، فإن هذه حقيقة الديمقراطية، فمعظم ممثلي البرلمانات الحقيقية ليسوا من أصحاب الكفاءات العلمية العالية، أو الخبرات المميزة. معظمهم أناس يجيدون التعاطي مع الشارع. لم يختر الناس حمادي الجبالي في تونس لأنه مهندس في الطاقة الشمسية من جامعة باريسية. ولم يختر المصريون مرسي لأنه دكتور خريج جامعة من كاليفورنيا، بل لأنه مرسي، الرجل الذي يظنون أنه يمثل همومهم. ربما هم على حق، ربما لا. ربما نكتشف أن مرسي أعظم رئيس عرفته مصر منذ توت عنخ آمون أو قد يكون أسوأ من حسني مبارك.
المخطئون هم أولئك الذين يريدون شخصية تنسجم مع تصوراتهم المثالية لما ينبغي أن يكون عليه الرئيس المنتخب! الحقيقة أبسط من ذلك، إنه اختيار غالبية مواطنين؛ هذه هي الديمقراطية. أحيانا تكون النتيجة مروعة مثلما انتخب النمساويون شخصا متطرفا عنصريا، قاطعتهم معظم حكومات العالم لكن جورج هايدر رأس حكومة ائتلافية لسنتين، ثم سقط حزبه في الانتخابات سقوطا مروعا، وهو نفسه مات في حادث سيارة لاحقا. الفارق بين الديمقراطية الغربية العتيقة والعربية الوليدة أنه في الأولى يندر أن يصل متطرف إلى الحكم، فقد كانت كارثة صعود هتلر للحكم ديمقراطيا درسا قاسيا. أما الديمقراطية العربية فتشبه الأوروبية القديمة، يفوز بها دينيون وقبليون ومناطقيون. فهي تعكس أولا الثقافة المحلية، وثانيا لا تزال غير مطورة بدستور يحمي الحقوق، ولا محمية بمؤسسات قضائية مستقلة وقوية.
وفي كلتا الحالتين الديمقراطية ليست امتحانا في علم الفيزياء، ولا هي خاصة بالنخبة، كما كانت تجري في فيينا قبل ألفي عام، عندما كان علية القوم هم من يختارون حكام الشعب. من يقرر هو الواقف في طابور الانتخاب وغالبا معدل ثقافته بسيط، ربما لم يجتز امتحان الثانوية.
أعرف أن نتائج الانتخابات المصرية والتونسية صدمت شريحة من المثقفين، فهذا أول تعامل لهم مع الواقع، مع الديمقراطية الحقيقية بعد عقود من الديمقراطيات المزورة. وكل النظم تبحث عن شرعية وجود، وهي هنا عقد اجتماعي بين الناس ومؤسسة الحكم يتم تداول السلطة بما يقبل به الناس. فهل يقبل الإخوان والنهضاويون أن يكونوا ديمقراطيين لاحقا، كما كان شعبهم معهم عندما اختارهم، ويسلموا الرئاسة لمن يختاره المواطن المصري والتونسي بعد أربع سنوات من الآن؟ أمر متروك للزمن ولهم.