حريّ بمرسي أن يزور قبريهما

mainThumb

29-06-2012 02:12 AM

 إن نصر الله تعالى للمؤمنين في مصر الكنانة لم تصنعه ثورة وحسب على جلال تضحيات شهدائها وأبنائها، بل صنعته دماء غزيرة أهرقت عبر سنوات طويلة، وصنعته أعمار حبست خلف قضبان السجون، وصنعته أرواح أزهقت على أعواد المشانق، وصنعته دموع سكبت حرّى من مقل عرفت معاني القهر والظلم والحرمان.
     مئات بل آلاف بل عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعذبين والمعتقلين والمقهورين والمشردين والمطاردين والمحرومين في مصر وما حولها عبر ثمانين عاما قد بذلوا أغلى ما يملكون من مال وحرية ونفس وروح وزوج وولد من أجل هذه اللحظة التاريخية التي نشهدها اليوم.
 
     من هؤلاء المعذبين في الأرض الشهيد كمال السنانيري رحمه الله وزوجته المجاهدة أمينة قطب شقيقة المفكر الشهيد سيد قطب رحمهما الله تعالى، وقصة زواج الشهيد السنانيري والمجاهدة أمينة قصة حب ووفاء لم يشهد التاريخ القديم والحديث لها مثيلا، فقد تمَّ الرباط بينهما حين كان الشهيد كمال السنانيري داخل السجن.
     تقول السيدة أمينة: كان هذا الرباط قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرر أن يقضي على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون.. لقد سجن الداعية الشهيد كمال السنانيري في عام 1954م، وقُدِّم إلى محاكمة صورية مع إخوانه لأنهم يقولون ربنا الله.. وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة (25 عاماً) ثم يعاد بعدها إلى المعتقل.
 
      وبعد مرور خمس سنوات خرج ليدخل مستشفى السجن، وفيها قابل الأستاذ "سيد قطب"، الذي كان يعالج في نفس المستشفى، وفي هذا المكان طلب "السنانيري" يد "أمينة" من أخيها "سيد"، وبعد عرض الأمر عليها وافقت على هذه الخطبة التي ربما تمتد فترتها لتستمر عشرين عامًا، هي الفترة الباقية لهذا الخطيب المجاهد حتى يخرج من محبسه الظالم، وتم العقد بعد ذلك، على الرغم من بقاء العريس خلف الأسوار المظلمة، وكأن "أمينة" بذلك تعلمنا معاني كثيرة؛ تعلمنا التضحية الفريدة، فقد كانت شابة ولم يفرض عليها أحد هذا الاختيار، إنها عشرون عامًا، ليست عشرين يومًا أو حتى عشرين شهرًا!! وكأنها كذلك تذكر أولئك المجاهدين المحبوسين عن نور الشمس بالأمل والثقة في وعد الله واختياره. 
     وكان الزوج العطوف يكره لها غبنًا أو ظلمًا، فارسل لها : "لقد طال الأمد، وأنا مشفِقٌ عليك من هذا العناء، وقد قلت لكِ في بدء ارتباطنا قد يُفرَج عني غدًا، وقد أمضي العشرين سنة الباقية أو ينقضي الأجل، ولا أرضَى أن أكون عقبةً في طريق سعادتك، ولكِ مطلَق الحرية في أن تتخذي ما ترينه صالحًا في أمرِ مستقبلك من الآن، واكتبي لي ما يستقرُّ رأيُك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير".، ووصل رد "أمينة" في رسالة تنبئ عن كريم أصلها، جاء فيها: "لقد اخترت أملاً أرتقبه، طريق الجهاد والجنة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم".
 
     ومرت السنوات الطويلة سبعة عشر عامًا، خرج الزوج بعد أن أفرج عنه عام 1976م، ليواصل مع "أمينة" الأمينة رحلة الوفاء والكفاح، وتمَّ الزواج، وعاشت أمينة معه أحلى سنوات العمر. وفي الرابع من سبتمبر سنة 1981م اختُطف منها مرة أخرى ليودع في السجن، ويبقى فيه إلى أن يلقى الله شهيداً من شدة و هول ما لاقاه من تعذيب في السادس من نوفمبر من العام نفسه، وسُلِّمت جثته إلى ذويه شريطة أن يوارى التراب دون إقامة عزاء..
 
      وظلت "أمينة" تعيش على تلك الذكريات الجميلة، ذكريات الحب والوفاء والجهاد والإخلاص، وكتبت في شعرها متساءلة بلوعة بعد فراقه:
 
 هل تـــــــرانا نلتقـــــي أم أنهــــــــا كانت اللقيا على أرض السراب؟!
 
 ثم ولَّت وتلاشــــــــــــى ظلُّهــــــــا واستحالت ذكــــــــــرياتٍ للعذاب
 
 هكذا يســــــــــــــأل قلبي كلمـــــــا طالت الأيام من بعــــــــــد الغياب
 
 فإذا طيفــــــك يرنــــــو باســـــــمًا وكأني في استماع للجـــــــــــواب
 
 أولــــــم نمــــضِ على الدرب مـعًا كي يعــــود الخـير للأرض اليباب
 
 فمضينا فـــــــــــي طريــــق شائك نتخلى فيـــــــــــه عن كل الرغاب
 
 ودفنَّا الشــــــــــوق فـــــي أعماقنا ومضينا في رضــــــــاء واحتساب
 
 قد تعاهـــــــــــدنا على الســير معًا ثم عاجلت مُجيبًا للذهــــــــــــــاب
 
 حين نـــــــــــاداك ربٌّ منعـــــــــمٌ لحياة في جنـــــــــان ورحـــــــاب
 
 ولقــــــــــــاء فـــي نعيــــم دائــــم بجنود الله مرحى بالصحــــــــــاب
 
 قدَّموا الأرواح والعمـــــــر فـــــدا مستجيبين على غــير ارتيــــــــاب
 
 فليعُد قلبك مـــــــن غفلاتـــــــــــه فلقاء الخلد في تلك الرحـــــــــــاب
 
 أيها الراحل عذرًا في شكــــــــاتي فإلى طيفك أنَّات عتـــــــــــــــــاب
 
 قد تركــــــت القلب يــــدمي مثقلاً تائهًا في الليل في عمق الضبــاب
 
 وإذ أطـــــــــوي وحيدًا حائــــــرًا أقطع الدرب طويلاً في اكتئـــــاب
 
 فإذ الليل خضـــــــــــمٌّ مـــــوحِشٌ تتلاقى فيه أمواج العـــــــــــــذاب
 
 لم يعُــــــــد يبــق فـــــي ليلي سنًا قد توارت كـــــل أنــــوار الشهاب
 
 غير أني سوف أمضي مثلمـــــــا كنت تلقـــاني في وجــــه الصعاب
 
 سوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا يرتضي ضعفًا بقـــول أو جــــواب
 
 سوف تحذوني دماء عابقـــــــات قـــــــد أنارت كل فــــــجٍ للذهــــاب
 
     والآن وبعد ستة وثلاثين عاما حري برئيس جمهورية مصر العربية الدكتور محمد مرسي أن يزور قبري هذين الشهيدين العظيمين وأن يذرف على ذكراهما دموع الحب والوفاء وينشد شيئا من قصيدتهما الخالدة. 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد